وقفة مع سبب نزول الآية:
لقد كانت هذه الآيةفي ما يقول المفسرون في أسباب النزولمن أجل توجيه المسلمين إلى استبدال الكلمات التي يمكن أن تعبّر عن معنى سيىء في لغةٍ أخرى ،مما يمكن أن يستغلّه أعداء الإسلام في الانتقاص من الإسلام والمسلمين ،من دون أن يكون لنا حجةٌ عليهم في ذلك ،لأنهم يحاولون الإيحاء بأنهم يريدون بها المعنى الظاهر الذي يقصده منها سائر النّاس ،وهذا ما حدث في عهد الرسالة الأوّل في المدينة في كلمة: «راعنا » التي كان المسلمون يخاطبون بها النبيّ طالبين منه أن يصغي إليهم بسمعه ،فقد ورد في اللغة: «أرعيته سمعي » إذا أصغيت إليه ،ولكن لها معنىً آخر عند اليهود يوحي بالسبّ والانتقاص ،فقد ورد أنَّ معنى «راعنا » لديهم من الرعونة يريدون بها الوقيعة والنقيصة ،وقد جاء في الحديث عن الإمام الباقر ( ع )كما في مجمع البيانأنَّ «هذه الكلمة سبٌّ بالعبرانية ،إليه كانوا يذهبون »[ 1] .فلما عوتبوا قالوا: نقول كما يقول المسلمون ،فأراد اللّه للمسلمين أن لا يتركوا لليهود مجالاً للتنفيس عن حقدهم بهذه الطريقة ولا يَدَعوا لهم باباً للاستهزاء ،فعلّمهم أن يقولوا: «انظرنا » أي انظر إلينا أو أقبل علينا ،أو ما شاكل ذلك من معان .
توعية القرآن للمؤمنين في حركة الواقع:
{ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} ممن التزموا الإيمان في أقوالهم وأفعالهم ،{ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا}وأمثالها من الكلمات التي قد توحي بمعنى مختلفٍ عن المعنى المقصود ،فيوحي بالإساءة من حيث يريد المتكلّم الإحسان ،فإنَّ كلمة «راعنا » التي تطلقونها في حديثكم مع النبيّ محمَّد ( صلى الله عليه وسلم ) لتقصدوا منها معناها الظاهر عندكم في اللغة العربية ،أي راعنا سمعك ،بمعنى أعطنا سمعك واسمع لنا ما نريد أن نسألك عنه ،أو انظر في مصالحنا وتدبير أمورنا ،فإنَّ اليهود يقصدون بها السبّ ،لأنهم يستقونها من الرعونة وهي الجهل والحمق ،بحسب مدلولها في لغتهمكما يُقالولكن
{ وَقُولُواْ انظُرْنَا} أي انظر إلينا أو انتظرنا وتأنَّ علينا ،{ وَاسْمَعُواْ} أيُّها المؤمنون كلام اللّه بتأمّل وتدبّرٍ وتفكير ،لتفهموا مقاصده ،ولتعرفوا إيحاءاته ،فذلك ما يثبت إيمانكم وينطلق بكم في خطّ الاستقامة ،أمّا الكافرون الذين لا يسمعون كلام اللّه ،وإذا سمعوه أعرضوا عن الانفتاح عليه أو حرّفوه عن مواضعه ،فإنهم يسقطون في عذاب اللّه ،{ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}جزاءً لهم على جحودهم وإنكارهم بعد قيام الحجّة عليهم .
دقة المصطلحات وإيحاءاتها:
وهذه قاعدة إسلامية توحي للمسلمين في كلّ زمان ومكان بالتدقيق في مداليل الكلمات والمصطلحات التي يستعملونها ،ودراسة الآفاق التي يمكن أن تثيرها في ما لها من مفاهيم ضيّقةٍ أو واسعة لدى النّاس ،مما قد يلتقي بالمعنى الإسلامي الأصيل ،ومما قد لا يلتقي به ،لئلاّ يُساءَ استغلالها من قِبَل الآخرين في مقاصد شرّيرة ضالّةٍ أو كافرةٍ يُراد بها تمييع المفاهيم الإسلامية وإرباكها ،كما نلاحظ في بعض الكلمات التي أخذت في حياة النّاس أبعاداً معينة لا تنسجم مع التفكير الإسلامي ،كما في كلمة «الحرية » التي أصبحت تحمل من المعاني الكثير الكثير مما قد لا يتوافق مع الحدود التي يقف التشريع الإسلامي عندها في أوضاع الإنسان وأفعاله وعلاقاته وأقواله ...فقد أخذت هذه الكلمة بعضاً من أفكار الاتجاه الرأسمالي الذي يعطي الفرد مساحةً واسعة في تصرفاته بعيداً عن كلّ مضمون أخلاقي أو إنساني ،فأصبح من ملامحها البارزة أن يسمح الإنسان الفرد لنفسه بأن يفعل ما يشاء في علاقاته الجنسية ،أو الاقتصادية ،أو السياسية ...بشرط أن لا يعتدي على حرية غيره ،بل ربما امتد ذلك إلى حرية الانتحار مما لا يوافق عليه الإسلام .وهكذا القول في كلمة الديمقراطية التي يستعملها بعض المسلمين في الأسلوب الذي يضادّ الاستبداد والفردية والتسلّط في الحكم والتشريع والعلاقات العامة ،ويتناسب مع الطريقة السمحة المتواضعة في صفات النّاس ،فيُقال: إنَّ الإسلام ديمقراطي ،للتدليل على ما فيه من معاني الشورى والتسامح ،ويُقال إنَّ فلاناً ديمقراطي في أخلاقه بمعنى أنه متواضع ؛ولكن الكلمة تحمل في داخلها معنى يختلف عن ذلك كلّه في حدوده الفكرية والتشريعية والاقتصادية ،ما يوجب اختلالاً في المفهوم الأساسي ،الأمر الذي قد يتجه بالتفكير إلى غير ما نريد ،فيخلق في حياتنا ذهنية غريبة لا ترتضي التشريعات أو الأفكار التي لا تنسجم مع الاتجاه الديمقراطي للحكم والتشريع في ما تعنيه كلمة الديمقراطية ..ولهذا ،فإننا نتحفظ على مثل هذا التعبير ،ولا نرى صلاحاً في استعماله في حديثنا عن الإسلام وعن المسلمين .
ويمكن لنا أن نضيف إلى هاتين الكلمتين كلمة «الاشتراكية » ،التي شاع استعمالها في أحاديثنا عن الإسلام في مفهومه لحل مشكلة الفقر وفي تشريعاته المالية ،فقد رأينا البعض يعطي الإسلام صفة الدِّين الاشتراكي كطريقة من طرق إعطاء الإسلام طابعاً إنسانياً عادلاً ،ولكن هذه الكلمة تحمل في داخلها معنى آخر يختلف مع الإسلام في حدوده التشريعية والعملية ،لأنه يلتقي باعتبار الدولة صاحبة الحقّ الشرعي في ملكية وسائل الإنتاج وتحديد الملكية في مصادرها ومواردها ،وغير ذلك مما قد لا يتفق الإسلام معه في أكثر مجالاته .
إنَّ القضية التي نستوحيها من الآية ،هي أنَّ علينا أن لا نفسح في المجال لاستغلال الكلمة في غير مدلولها الذي نؤمن به ،حتى لو كان المدلول المضاد مرتبطاً بها من خلال لغة أخرى أو عُرفٍ آخر ،أو أجواء معينة تضفي عليها طابعاً خاصاً ،كما في كلمة السلام أو «أنصار السلام » ،التي حملت جوّاً حزبياً يوحي بالانتماء إلى بعض المبادىء على أساس اعتبارها مصطلحاً جذاباً للكسب والاستغلال الحزبي ،وإن لم يكن للكلمة هذا المعنى بحسب طبيعتها ومعناها اللغوي ..