الاستغفار من الذنب
{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} لأنه الرحمن الرحيم ،فلا يأمر عبادَه إلا بما يستطيعون الإتيان به ،ولا ينهاهم عن شيء إلا إذا استطاعوا تركه ،{لَهَا مَا كَسَبَتْ} من الطاعات التي قامت بها بجهدها الواعي{وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} من السيئات التي اندفعت فيها من خلال ضغط الغرائز في خط الانحراف ما يجعلها تواقع معصية الله من دون وعيٍ للنتائج القاسية التي تقودها إليها .وهكذا يواجه المؤمنون المشكلة في حجم العواقب الخطيرة ،فيلجأون إلى الله في ابتهال وخشوع ودعاء{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} من خلال أجواء اللامبالاة التي تمنعنا من الاهتمام بأوامرك ونواهيك وتسلمنا إلى السلوك العبثي الذي لا يخاف عقاباً ولا يرجو ثواباً ولا يحمل همّ المستقبل الذي يقبل عليه ،فتوقعنا في الغفلة التي تنسينا ذكرك وتبعدنا عن وعي مقامك ،وفي الخطأ الذي نتخبط في وحوله وفي دروب الانحراف التي تضلّنا عن سبيل هداك .
{رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا} ثقلاً من التكاليف القاسية{كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} من الأمم الماضية والقرون الخالية ،لأنهم كانوا إذا ارتكبوا خطيئة عجلت عليهم عقوبتها وحرم عليهم بسببها ما أحلّ لهم من الطعام ،كما قال تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [ النساء: 160] ،{رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} من التكاليف التي تمثل العقوبة على ما فعلناه من المعاصي كقتل النفس عند التوبة .الظاهر أن المراد مما لا طاقة لنا به هو الأمر الذي يصعب احتماله لأنه يكلف صاحبه جهداً عظيماً ،حتى يقولفي معرض التعبير عن ثقله الشديد عليهإنه قد حمّل ما لا يطيق ،وليس المقصود بهعلى الظاهرما لا يقدر عليه ،لأنه لا يقبل التكليف مطلقاً{وَاعْفُ عَنَّا} ذنوبنا{وَاغْفِرْ لَنَا} خطايانا{وَارْحَمْنَآ} برحمتك الواسعة التي لا تضيق عن أحد ،بالنعم التي تغدقها علينا ،والرضوان الذي تمنحنا إياه{أَنتَ مَولانَا} وولينا الذي نعيش في رعاية ولايته التي كانت أساس وجودنا وحياتنا وناصرنا في كل أمورنا{فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} بالقهر والغلبة بالحجة والفتح المبين .
مغزى تزكية الله للرسول
وهناك نقاطٌ لا بد من التوقف عندها للتوضيح:
1لماذا هذا الإعلان عن إيمان الرسول بما أنزل إليه من ربّه ،بعد أن كانت هذه حقيقة واضحة ،من موقع المعنى الذي تفرضه رساليته أو رسوليته ..؟
ونجيب على ذلك ،بأن من الممكن أن يكون الأساس في ذلك هو الإيحاء بانطلاق الرسالة من قاعدة الإيمان العميق بها من قبل داعية الرسالة ،الأمر الذي يعني تحرّك الرسول من خلال وضوح الرؤية لكل ما يدعو إليه من أفكار وما يبشر به من مفاهيم للحياة ،ما يجعل للقضية بعداً روحياً ينطلق من فكره وشعوره ،بالإضافة إلى مسؤوليته الملقاة عليه من الله ،فإن ذلك يعطي للدعوة حرارةً في الكلمة والأسلوب والفكرة ،ويبعث في الموقف والحركة روحاً جديدة وحيوية نابضة بالإخلاص ،وبذلك يختلف الوضع عما إذا كانت الدعوة منطلقة من التكليف والمسؤولية بعيداً عن الجانب الذاتي ،كما يحدث في بعض الدعاة الذين ينطلقون في الدعوة من قاعدة المهنة والوظيفة من دون إيمان أو إحساس ذاتي بالحقيقة التي تفرض نفسها على الفكر والشعور ،أو الذين يثيرون الناس بالأفكار والشعارات التي لا يؤمنون بها من ناحية فكرية ،فهم يتحركون في الحالة الأولى من دون روح ،تماماً كأيّة عملية جامدة ،لأن المسؤولية تقضي بذلك ،فلا يستطيعون في غالب الحالات التأثير الروحي على الآخرين ،لأنهم يفقدون الشعلة المقدّسة التي تشرق من خلالهم في قلوب الآخرين .أما الحالة الثانية ،فتتمثل بالجوانب الاستغلالية أو التجارية التي تدفع الإنسان إلى البحث عن عناصر الإثارة التي لا يقتنع بها من أجل إثارة الناس بعيداً عن جانب المصلحة الحقيقية في أمورهم العامة .
إن الله سبحانه يريد أن يوحي بأنّ الرسول كان أوّل مؤمن برسالته ،ليقول لنا ،إنّ على الداعية أن يعمّق الإيمان في نفسه قبل أن ينطلق في رسالته ،لتكون بداية خط الإيمان منطلقة من نقطة الإيمان في روحه وفكره وحياته ،لأن ذلك هو سبيل الصدق الذي ينبغي للإنسان أن يعيشه في القول والعمل ،وقد جاء في بعض الآيات الكريمة التأكيد على هذا الجانب في الرسول ،وذلك قوله تعالى:{وَالَّذِي جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [ الزمر: 33] ،وقد درج القرآن الكريم في أسلوبه التربوي على أن يقدّم للمؤمنين شخصية الرسول في صفاته وخطواته العملية كنموذج حي في التأكيد على عظمة بعض الأشياء وخطورتها ،فكان يخاطب الأمة من خلال خطاب النبي( ص ) .
المؤاخذة على النسيان
2لقد تحدث الله عن دعاء المؤمنين بأن لا يؤاخذهم بما أخطأوا أو عصوا فيه عن نسيان ،ما يعني أن النسيان قد يقتضي المؤاخذة ،مع أن الناسي غافل لا يمكن توجه التكليف إليه ،فكيف يمكن أن يعاقب على ذلك ؟!
ويُجاب عن ذلك ،أن النسيان قد يصدر من حالة غير طبيعية أو اختيارية ،فتلك لا يؤاخذ عليها الإنسان ،بل يؤاخذ على اللامبالاة في تكاليفه الشرعية الذي أدى إليها ترك التحفظ عن النسيان ،ففي مثل ذلك ،قد يكون الترك اختيارياً باختيارية مقدماته ،وذلك إذا أوجب الله عليه التحفظ عن النسيان بالتحفظ عما يوجبه ،فيكون رفع المؤاخذة عنه برفع وجوب التحفظ عليه ...وقد تحدّث الأصوليون عن هذا الموضوع تفصيلياً في مناقشتهم لحديث الرفع المشهور .
3كيف يطلب المؤمنون من الله أن لا يحمّلهم لا ما لا طاقة لهم به ،في الوقت الذي نعرف فيه قبح التكليف بغير المقدور ،ولا يمكن صدور القبيح من الله ،فلا يمكن أن يحمِّلهم الله إيّاه ليطلبوا رفعه عنهم ...
وأجيب عنه ،بأن من الممكن أن يكون المراد به ما لا يطاق بحسب العادة لا بحسب الحقيقة ،وهو الذي يقترب من مفهوم الحرج الشديد ،ويمكن أن يكون إشارةً إلى العذاب الذي لا يطاق ،لا إلى التكليف ؛والله العالم .
4إن الله قد قرّر في هذه الآيةبأسلوب الجملة الاعتراضيةالحقيقة الإلهية المستمدة من عدل الله تعالى ،وهي أن الله لا يكلف الإنسان إلا بمقدار طاقته ووسعه ...وفي هذا النطاق الذي تتحرك من خلاله القدرة ،يواجه الإنسان المسؤولية ،فله الثواب من الله بما كسبه من طاعة وخير ،وعليه العقاب مما اكتسبه من معصية وشر .وفي ضوء ذلك ،كان الدعاء يتحرك في أجواء الحالات التي يشعر فيها الإنسان بالحاجة إلى المغفرة ،أو التي يشعر فيها بالحاجة إلى أن يبقى التكليف في نطاق القدرة .
5ربما نستوحي من هذه الآية أنها تمثل التلخيص للأجواء العقيدية والعملية والروحية التي أثارتها سورة البقرة في آياتها العقيدية والقصصية والتشريعية والإيمانية ،في هدفها الكبير من صنع الشخصية المسلمة المؤمنة على أساس هذه الصورة ،وبذلك يلتقي آخر السورة بأوّلها في الحديث عن المؤمنين في صفاتهم وتطلعاتهم وأعمالهم ،وفي الإيحاء بأن الحديث عن الإيمان والمؤمنين ليس مجرّد حديث يعيش في الخيال الروحي والفكري ،بل هو حديث عن حقيقة حيّة تحركت مفاهيمها في الواقع ،فاستطاعت أن تجسد الصورة في الفرد وفي المجتمع ،في النموذج الأمثل الأعلى المتمثل بالرسول محمد( ص ) وفي النماذج المتنوعة الجيّدة المتجسدة في شخصيات المؤمنين الذين رافقوا الرسول( ص ) أو الذين جاؤوا من بعده .وربما كان في الحديث عن الموضوع ،كواقع حي متحرك ،إيحاءٌ للعاملين بالتحرّك في دعوتهم إلى الله على الأساس الواقعي الذي يحوّل المفاهيم إلى مواقف ونماذج وأوضاع حيّة ،ولا يتركها مجرد مفاهيم تتحرك فيها الكلمات وتلتهب من خلالها المشاعر ،فإن قيمة الدعوة تتمثل بمقدار ما تتجسد في الحياة عقيدة وشعوراً وخططاً عملية لهذه الحياة .