تصديق الرسول والمؤمنين بما أنزل الله
في هذه الآية تصوير حيّ رائع للمجتمع المؤمن في المدينة ،مجتمع الرسول وأصحابه ،بما يحمله من أفكار وإيمان ،وما يواجهه من مسؤولية ويعيشه من تطلعات بين يدي الله في مشاعره وأحاسيسه المنسابة في روحية العبادة وصفاء الروح وخشوع الدعاء ،عندما يعيش الإنسان العبودية الخالصة أمام الألوهية الخالقة العظيمة في الشعور بالحاجة التي تفتش عن الغنى ،والذنب الذي يبحث عن المغفرة والعفو والرحمة ،وفي الإحساس بالضعف من الله وحده لا من أحد غيره ،وهو ما يستدعي القوة والنصرة في كل معارك الصراع في سبيل الله تعالى .
وفي هذا التصوير إيحاء بالقضايا الأساسية في العقيدة وفي الشعور والعمل ،ودعوة خفية لكل إنسان أو مجتمع مؤمن بالبحث عن مقوّماته وخصائصه ،في ما تشتمل عليه هذه الآية من خصائص ومقوّمات ،وبالانطلاق في روحياته وتطلعاته في أجواء هذه التطلعات الروحية في الآية .والآن ،كيف نتمثل التفاصيل ؟
إن الله يحدثنا عن إيمان الرسول بما أنزله عليه من وحي ،وعن المؤمنين في إيمانهم بالله وملائكته وكتبه ورسله ،من دون فرق بين رسول ورسول ،فلا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ،لأنهم يمثلون خطاً واحداً وفريقاً واحداً يكمّل أحدهم الآخر ويؤيد كل واحد منهم صاحبه ،فيبشر به إذا كان لاحقاً له في الزمن ،ويدعو أتباعه إلى الإيمان به واحترام رسالته إذا كان سابقاً له ،فإن الرسالات لا تتناقض ولا تتنافى في نفسها وفي مفاهيمها للحياة وللآخرة ،بل تختلفإذا اختلفتفي مراحلها ،وفي حدود التخطيط الزمني للأشياء عندما تكون المصلحة محدودة بحدود زمنية تقف عندها لتفسح المجال لمصلحة جديدة لحكم جديد ،وهذه هي عظمة الإسلام في تربيته للإنسان المسلم على احترام كل الرسالات وكل الرسل ،ولذا ،فإنه يحتضن التاريخ الديني كله بفكره وقلبه ووعيه ،ليستفيد منه في مجالات الحياة وتجاربها الكبيرة والصغيرة ،وذلك هو وحي القرآن في ما يقص من أنباء الرسل وما يثبّت به القلوب والأقدام ...
وتنطلق الصورة من جو الإيمان إلى جوّ الممارسة ...فها هم المؤمنون يشعرون بأن الإيمان موقف طاعة ،فإذا سمعوا شيئاً من وحي الله في آيات القرآن ،أو في شريعة الرسول في سنته ،قالوا سمعنا ،فلا ينكرون الحقيقة التي سمعوها ،وقالوا أطعنا ،فلا يكتفون بالإيمان كفكر يعيش في عقولهم ،بل يعتبرونه خطاً للحياة العملية تتحرك فيه كل مشاريعهم ،ليكون الإيمان موقفاً ،لا مجرد حالة نفسية تكمن في أعماق الشعور ...إنه موقف العبودية الخالصة والخشوع الكامل أمام عظمة الله{سبحانك ربّنا} ،وانطلاق مع فكرة البعث الذي يرجع فيه الإنسان إلى الله في خط النهاية ،ليقف أمامه وقفة العبد الذي يواجه نتائج المسؤولية ...
وتتألق الصورة أكثر وتشرق في تصوير جوّ الابتهال الخاشع أمام الله في ما يثقل ضمير الإنسان وقلبه ،وفي ما يحمل من تمنيات يقدمها إلى ربه ،فهو غير معصوم عن الخطأ ،فقد يخطىء مع الله تحت تأثير نزوة أو شهوة أو غفلة ،فيحس بعد ذلك بثقل الخطأ على نفسه ،وهو غير معصوم من النسيان ،فقد ينسى مسؤوليته أمام الله في كثير مما يفعل أو يترك ،فيقع في الانحراف عن الخط العملي للشريعة ،فيثقله ذلك ويتعبه ويبعث اللوعة في نفسه ،فيتجه إلى الله بالدعاء أن لا يؤاخذه على ما خالف به ربّه تحت تأثير الخطأ والنسيان ...
ويتمثل الإنسان المسلممن جديدتاريخ النبوّات السابقة ،وكيف كان الله يحمل على عباده ثقلاً في ما يكلفهم به ،وهذا هو معنى الإصر ،وذلك من خلال ذنب ارتكبوه ،أو عمل انحرفوا به ،فيتجه إلى الله ليجنبه الوقوع في هذه التجربة الصعبة ،لئلا تتحول الصعوبة إلى حافز للمعصية تحت وطأة ضعف إرادة الإنسان .
وكان التكليف آنذاك يتحرك بشكل تدريجي ،واستجاب الله لهم دعاءهم ،فرفع عنهم الخطأ والنسيان في ما حدثنا به رسول الله( ص ) في حديث الرفع المعروف ،كما رفع عنهم ما لا يطيقون مما يثقل عليهم تحمله من خلال الوضع العادي للطاقة ولم يجعل عليهم في الدِّين من حرج ...وينتهي الدعاء بالطلب الخاشع للعفو والمغفرة عن كل ذنب ،وتستيقظ في قلوبهم الحقيقة الحاسمة المشرقة ...{أَنتَ مَولانَا} فالله هو مولى المؤمنين الذي ينصرهم ويؤيّدهم ليشفي صدورهم ويرعاهم برعايته ،فيلتفتون إلى جنود الكفر من حولهم ،في معركة الكفر والإيمان ،فيشعرون بالحاجة إلى القوة التي تحميهم من نقاط الضعف ،فيلجأون إليه ليطلبوا منه النصرة على القوم الكافرين ،في حربهم المقدسة التي يخوضونها ضدهم دفاعاً عن دينه ،وجهاداً في سبيله ...
إيمان الرسول بما أنزل إليه من الله
{ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} فهو المؤمن الأوّل الذي انطلق برسالته التي تلقّاها من ربه من خلال قناعته العميقة بأنه هو الحق الذي لا يقترب إليه الشك ،لأن الله لا يريد للرسول أن يدعو الناس إلى الإيمان الأعمى قبل الانفتاح على الدين في وضوح الرؤية ،وسعة الأفق ،وصدق الفكر والشعور ،والتزام الموقف الحق ،فلا معنى لرسالة يشكّ رسولها في صدقها ،وكيف يمكن لمن لا يملك القناعة أن يقنع الآخرين بقناعاته ،فإن فاقد الشيء لا يعطيه .
{وَالْمُؤْمِنُونَ} الذين تلقّوا الدعوة فأصغوا إليها بمسامع قلوبهم وفكروا بالرسالة فآمنوا بها ،ولذلك انطلق كل واحد منهم ليعيش إيمانه التفصيلي بكل مفردات الإيمان الرسالي .{كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} لأن الله حدّثهم عن ذلك كله من خلال الوحي الذي أنزله على رسوله ليبلغهم إياه ،ولأن الرسول قد حدثهم عن كل حركة الأنبياء ،ولهذا اعتبروا الإيمان بالرسل السابقين جزءاً من الإيمان برسالة الرسول ،لأن الرسالات تتتابع في المسيرة الإيمانية ،فكل رسالة تكمل الرسالة التي قبلها ،كما أن كل رسول يُصدّق النبي الذي يأتي من بعده ،وهكذا أعلنوا جميعاً{لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} فهم الذين اصطفاهم الله لإبلاغ رسالاته مع اختلاف مواقعهم ورسالاتهم{وَقَالُواْ سَمِعْنَا} ما جاء به الرسول مما بلّغه عن الله{وَأَطَعْنَا} أوامره ،لأن الإيمان يفرض على المؤمنين الاستماع الواعي والطاعة العميقة الواسعة ،{غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} اغفر لنا ذنوبنا فإننا راجعون إليك ،منفتحون عليك في رجاء شديدٍ أن تتقبلنا في ساحة رضوانك{وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فأنت الذي تملك أمر عبادك لتجزيهم جزاء ما عملوا أو لتغفر لهم ما أسلفوا ،فيكون مصيرهم بيدك عندما تدفع بهم إلى الجنة أو إلى النار .