قد يواجه الإنسان في حياته العملية ضغط الشهوة ،التي تلح عليه في ما يشبه الحريق الداخلي ،كي يستسلم لنداء الغريزة ،ويترك نداء اللّه .وقد يقع تحت ضغط الطمع ،الذي يدعوه إلى أن يترك إيمانه ومبادئه للحصول على مال أو جاه .وقد يواجه الضغوط الخارجية التي تقتحم حياته لتهدّد وجوده ،فيستسلم لتأثيراتها المنحرفة بعيداً عن خطّ اللّه ...فكيف يواجه ذلك كلّه ؟
إنَّ هاتين الآيتين تستثيران في الإنسان إيمانه باللّه من خلال الوسائل العملية للإيمان ،ليثبت الإنسان على خطّ الحقّ في المنحدر الخطر ،ويتحدّث اللّه عن وسيلتين هما: الصبر والصلاة .
أمّا الصبر ،فيمثّل الموقف القوي الذي يحكم الإنسان فيه نفسه انطلاقاً من إرادته وإيمانه ،وهو من الأخلاق الإيجابية الإسلامية التي تبني للإنسان القاعدة النفسية القوية المتماسكة ،التي تمنعه من الانهيار والانسحاق تحت وطأة نوازع الضعف البدنية والنفسية والخارجية ،فيقوده ذلك إلى الالتزام بكلّ متطلبات الإيمان ومسؤولياته ،لأنَّ الانحراف ينطلق غالباً من فقدان القوّة الذاتية للإرادة ،وقد ورد في الحديث المأثور: «إنَّ الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ،ولا جسد لمن لا رأس له ،ولا إيمان لمن لا صبر له » .
أمّا الصلاة ،فهي معراج المؤمن إلى ربّه ،تعرج فيها روحه وضميره وقلبه وفكره ..فتلتقي باللّه في لحظات ابتهال وانفتاح ،وتتصل بالمعاني الكبيرة الممتدة في رحاب اللّه .إنَّ الإنسان إذا اتصل قلبه باللّه انفتحت روحه على أخلاقه العظيمة التي أرادنا أن نتخلّق بها في الحياة ؛ومتى تحقّق للإنسان هذا الانفتاح ،وعاش في هذه الأجواء الفسيحة ،انخفض عنده مستوى الاهتمام بالقضايا الصغيرة ،وعندها لن تثير في نفسه أيَّ شيء مما اعتاد النّاس أن يستثيروا به وجدانهم وحياتهم .
وفي ضوء ذلك ،نستوحي أجواء الآية التي تتجه إلى المنحرفين عن الخطّ من اليهود وغيرهم لتقول لهم: إنَّ مشكلتكم تتحدّد في نقطتين أساسيتين من نقاط الضعف ،فأنتم تنسون اللّه من جهة ،وتضعفون أمام الضغوط والإغراءات من جهة أخرى ،فإذا نسيتم اللّه استسلمتم للشيطان وفقدتم الأجواء الروحية التي توحي لكم بالخير والانفتاح على القضايا الكبيرة في الحياة ،وتحوّلت الحياة لديكم إلى اهتمامات صغيرة محدودة تلاحق الصغائر التي تثير العداوة والبغضاء ،وتبعث على الخصومة والنزاع ...وإذا ضعفتم أمام الإغراء والضغط الداخلي والخارجي ،تركتم قيمكم وراء ظهوركم ؛فإذا هاجمتكم حبائل الشيطان ومكائده وعوامل الإغراء ونوازعه ،فاستعينوا بالصبر لتحصلوا من خلاله على الإرادة القوية التي تثبت أقدامكم في الأرض ،فتستقيم لكم قضاياكم ومبادئكم وأخلاقكم في خطّ الإيمان ،وإذا نسيتم اللّه ،فاستعينوا بالصلاة ،لترتفعوا بروحكم إليه ،فتعيشوا في أجوائه وتسبحوا في ألطافه ونعمائه .
هل الصلاة عبء ثقيل ؟!
] وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ[.لعلّ المراد أنها ثقيلة على النّاس الذين لا يعيشون روح الخشوع للّه والخضوع لربوبيته ،لأنَّ صلاتهم تتحوّل إلى عبء ثقيل لا يدركون معناه ولا يرتفعون إلى آفاقه ،بل يمارسونهالو مارسوهاكواجب جامدٍ وضريبةٍ مفروضة عليهم .أمّا الخاشعون الذين تخشع قلوبهم لذكر اللّه ،وتتلذذ به ،وترتاح إليه ،فإنهم يقبلون عليها بكلّ ما في قلوبهم من حبّ وطمأنينة وانفتاح ،وبكلّ ما في نفوسهم من التطلّعات الروحية التي يحملونها إلى اللّه سبحانه في أمر دنياهم وآخرتهم ،وبكلّ ما في ضمائرهم من شعور بالمسؤولية أمام اللّه في ما يفكرون به ويقومون به من عمل ،وذلك عندما يعيشون الإيمان باليوم الآخر في عمق الإحساس بالعقيدة وروعة الإيمان بقضية المصير ،فيتمثّل ذلك في انضباطهم العملي ،لأنهم] الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ[.
والحديث عن لقاء اللّه لا يُراد منه اللقاء الحسّي المادي ،لأنَّ اللّه لا يتجسّد كما تتجسّد المخلوقات بالأشكال المادية ،بل هو كناية عن يوم القيامة الذي يلتقي النّاس فيه باللّه ،في حسابه وثوابه أو عقابه ،باعتبار أنه اليوم الذي لا مظهر فيه لسلطة أحد ولو بالشكل ،إلاَّ للّه ،كما قال سبحانه:] يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأمرُ يَوْمَئِذٍ للّه[ [ الانفطار:19] ،فكأنَّ الإنسان يلتقي باللّه هناك من خلال تمثّل وجوده تعالى ،من خلال الإحساس ،على نحوٍ أقوى بقدرته المطلقة .
وقد يبرز أمامنا سؤال عن السرّ في استبدال كلمة اليقين المناسبة للمقام ،باعتبار أنها تمثّل وضوح الرؤية لدى الإنسان ،فتزيد من تقواه ،بكلمة «الظنّ » ؟
والجواب: إنَّ من الممكن إيراد الإيحاء بأنَّ قضية الاستعداد للآخرة يكفي فيها الظنّ ولا يحتاج فيها إلى اليقين ،لأنَّ الإنسان يتحرّك بشكل غريزي إلى دفع الضرر المحتمل أو المظنون عن نفسه ،سواء في ذلك قضايا الدنيا والآخرة ؛وكأنَّ الآية تريد أن تثير في الإنسان هذا الشعور بالحاجة إلى الانضباط من خلال الطبيعة الوقائية للأشياء إزاء الفكرة المحتملة ،فلا يقف أمامها موقف اللامبالاة ،بحيث لا يفكر في المسؤولية إلاَّ من خلال الحاضر بعيداً عن تطلّعات المستقبل وإمكاناته .وربما نستوحي ذلك من بعض أساليب أهل البيت في الحوار مع بعض الزنادقة حول الآخرة: «إن يكن الأمر كما تقولوليس كما تقولنجونا ونجوت ،وإن يكن الأمر كما نقولوهو كما نقولنجونا وهلكت »[ 3] .يقول الشاعر:
قال المنجم والطبيب كلاهما لا تحشر الأجساد قلت: إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسرأو صح قولي فالخسار عليكما
وقد اتبع القرآن هذا الأسلوب في أكثر من آية ،فعبَّر عن المؤمنين بأنهم يرجون لقاء ربهم] فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَلِحاً ..} [ الكهف:110] .
ومن الطبيعي أن لا يكون هذا الأسلوب مقتصراً على إبقاء القضية في نطاق الاحتمال ليتجه العمل على أساس الاحتياط ،بل هو وارد في اتجاه الإيحاء بالانطلاق منه إلى اليقين ،من خلال إخراج الإنسان من أجواء اللامبالاة إلى أجواء المواجهة المسؤولة للفكر والعمل .وقد جاء في مجمع البيان: «أنَّ النبيّ ( ص ) كان إذا أحزنه أمر ،استعان بالصلاة والصوم »[ 4] ،باعتبار أنَّ الصوم مظهر للصبر .وجاء في الكافي عن الإمام جعفر الصادق( ع ): كان عليّ ( ع ) إذا هاله أمر فزع إلى الصلاة ثُمَّ تلا هذه الآية:] وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصّلاة[.
استفادات عملية من وحي ما تقدّم:
ذلك هو بعض الحديث في الجانب التفسيري للآيتين ،فماذا عن المعطيات العملية التي نخرج بها في واقعنا الإسلامي المعاصر ؟هنا يمكننا استيحاء نقطتين:
النقطة الأولى: إننا نستفيد من الآية الأولى ،تأكيد الجوانب العبادية كالصلاة والصوم ،والعناصر النفسية الأخلاقية كالصبر ونحوه في بناء شخصية الإنسان المسلم ،من أجل إبعاده عن أجواء الانحراف الفكري والعملي ،لأنَّ ذلك ما يحقّق له قوّة الاندفاع في الجانب العملي ،ويعينه على مواصلة السير في الطريق المستقيم .
إننا نشعر بالحاجة إلى الإلحاح على ذلك في أساليبنا التوجيهية ،وعدم الاكتفاء بالأساليب الفكرية التي تدفع الإنسان إلى الدخول في متاهات الجدل الفكري من دون أن يتحرّك في الاتجاه العملي ،لأنَّ ذلك قد يفيد بالنسبة للأشخاص الذين يختلفون معك في أسس الإيمان ،أمّا المؤمنون الذين انحرفوا عن الخطّ ولم ينحرفوا عن الإيمان ،فإنهم يحتاجون إلى التربية العملية التي تهيىء لهم سبل الانضباط في نطاق تقوية إيمانهم ،ولا فرق في ذلك بين المؤمنين التقليديين الذين يعيشون الإيمان الفطري ،وبين المؤمنين الذين يحملون الإيمان ،المشوب ببعض الانحرافات الطارئة ..فالأسلوب الأفضل معهم هو أسلوب التربية العملية التي تعمق ملكة الصبر والخشوع التي تربطهم باللّه .أمّا أسلوب إثارة القضايا الفكرية التي يُراد من خلالها تعميق الجانب الفكري من الإيمان ،فقد يعطي عكس النتيجة عندما يؤدي ذلك إلى إثارة مشاكل جديدة في الإيمان ،مما لم يكن داخلاً في الحسبان ؛ولذلك فلا بُدَّ من الانتظار ريثما يقوي المؤمن ارتباطه باللّه ،فلا يزلزله عن الخطّ شيء من شبهة أو مشكلة فكرية .
النقطة الثانية: إننا نستفيد من الآية الثانية التركيز على أسلوب الوعظ الذي يعتمد على التذكير بالآخرة في مجال الحث على العمل ،وإرجاع الإنسان إلى اللّه ،لأنَّ لدى الإنسان منطقة شعورية ترتبط بالانفعال والعاطفة ولا ترتبط بالفكر المجرّد ،فقد لا يكفي في إثارتها الحديث عن حل الإسلام لمشاكل الحياة ،وعن طبيعة الفلسفة التي تشمل مختلف النواحي الكونية ،بل لا بُدَّ من ربط ذلك كلّه بقضية المصير ،وموقف الإنسان من اللّه ،ومواجهته له في يوم القيامة في لحظات الحساب الشامل الذي يحاسبه فيه على كلّ ما عمل من خير أو شر ،فإن ذلك يحقّق للنفس خشوعها الروحي بين يدي اللّه كوسيلة من وسائل خشوع حياته للّه سبحانه .
إنَّ الدراسة الواعية للأساليب القرآنية في الدعوة ،تهدينا السبيل إلى ملاحظة التركيز العميق في القرآن على هذا الأسلوب ،حيث لا نجد أية مناسبة للوعظ إلاَّ وقد انطلق القرآن في استثارتها ،والإفاضة فيها بمختلف الجوانب الفكرية والعاطفية ،مما يدعونا إلى اعتباره طابعاً إسلامياً مميزاً في أسلوب الدعوة إلى اللّه .