بعد ما بين سوء حالهم وأن عقلهم لم ينفعهم والكتاب لم يذكرهم ، أرشدهم إلى الطريقة المثلى للانتفاع بالكتاب والعقل والعمل بالعلم النافع فإن العمل السيئ الذي سببه نسيان النفس ليس طبيعيا كالنفس لا يمكن دفعه ومقاومته بل هو اختياري وسببه عارض تمكن إزالته بما أرشد الله إليه في قوله{ واستعينوا بالصبر والصلاة} قال الأستاذ الإمام:أمر بالصبر وهو كما قال المفسر حبس النفس على ما تكره .ونقول بعبارة أوضح:هو احتمال المكروه بنوع من الرضى والاختيار والتسليم ، لأنه لو لم يكن كذلك لكان كما يقول العامة في أمثالهم ... وذكر مثلا بمعنى قول الشاعر:
صبرت ولا والله مالي طاقة ***على الصبر ، لكني صبرت على الرغم
والصبر الحقيقي المبني على التسليم يحصل بتذكر وعد الله تعالى بالجزاء الحسن للصابرين على أعمال البر التي تشق على النفس وعن الشهوات المحرمة التي تصبو إليها ، وبتذكر أن المصائب من فعل الله وتصرفه في خلقه فيجب الخضوع له والتسليم لأمره ، ومن عجيب أمر هذا الصبر:انه يقي الإنسان من الخسران متى حسن في كل شيء كما تفيده سورة ( العصر ) ويؤيده الاختبار ، وقد اشتهر أن"من صبر ظفر "وربما أتينا على شيء من معنى الصبر وأنه قوة من قوى النفس تدخل النظام في كل عمل من أعمالها – في موضع آخر .
الاستعانة بالصبر تكون بالالتفات إلى الأسباب التي تأفك الناس وتصرفهم عن صراط الشريعة كاتباع الشهوات ، والولوع باللذات ، والبعد عن المؤلمات ، ثم القياس بينها وبين ما رغب الله فيه ، أو أوعد بالعقاب على فعله ، ثم بملاحظة أن ما أوعد الله تعالى به أولى بأن يتقى ، وما وعد به أولى بأن يرجى ويطلب ، وضرب الأستاذ لمن يفقدون الصبر فيقعون في الخسران مثلا:صاحب الحاجة يهزه الطيش والتسرع إلى قضاء حاجته ويفقد الصبر على مرارتها فيكذب لاعتقاد أن حاجته تقضى فيدفع المضرة أو يجلب المنفعة بالكذب ، وأنه بالصدق يفوته هذا ، فيقترف جريمة الكذب لهذا الاعتقاد ، وهو ظان بل واهم ، ومتى اقترفه مرة هان عليه فيعود إليه فيكون كذابا [ ومتى عرف بذلك ضاعت الثقة به وفسد حاله وأصبح يجد الحاجة إلى الصدق أشد مما كان منها إلى الكذب] ويؤيد ما قاله الأستاذ الإمام:حديث"لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا "رواه الشيخان عن ابن مسعود ، وإذا ذكر مثل هذا الرجل أو تذكر من تلقاء نفسه الوعيد على الكذب وما ورد في ذلك من آيات في كتاب الله وآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان ، وما يجلبه لصاحبه من مقت الله وغضبه ، يسبق إلى ذهنه المكفرات ( ومثلها الشفاعات وسعة العفو والمغفرة ) كالاستغفار قبل النوم مائة مرة وقول كذا من الذكر بعد صلاة الصبح كذا وكذا مرة فلا يبقى للوعيد معها أثر ، إذ يذعن بأن ذنبه يغفر لا محالة ، وينسى سبب المغفرة الحقيقي وهو التوبة النصوح والرجوع إلى الله تعالى ، وأن العفو عن غير التائب الأواب على الله تعالى مجهول بالنسبة إلى علمنا وإن كان جائزا عقلا ، فإننا لم نطلع على ما في علم الله تعالى فنعلم أننا ممن يعفو عنهم .
[ وكيف نترك ما جاء عن الله في كتابه وعلى لسان نبيه من النصوص القاطعة الدالة على أن لعنة الله مسجلة على الكاذبين وهي بعمومها لا تدع لوهم مجالا في نزول سخط الله بالكاذب ، ثم نخترع لأنفسنا تعلة نتوكأ عليها في ارتكاب هذه الجريرة ونسندها إلى سعة عفو الله ، أو إلى مجمل من القول لا يبينه إلا تلك النصوص القاطعة ؟ إن هذا إلا خبال أو تصوير خيال ، أو فقد للإيمان بصحة تلك النصوص القاطعة نعوذ بالله] .
( وأقول ) إنما جعل شيخنا جريمة الكذب مثلا لاستباحة فاسدي الدين للمعاصي لأنه في معناه العام أكبر الكبائر وشر الرذائل حتى أن الكفر والشرك شعبة منه ، ولأنه ليس مما تغلب المرء عليه سَوْرَة غضب وثورة شهوة يقترف بالتروي والتعمد ، ولأنه مع ذلك عام فاش في جميع طبقات الناس في عصرنا هذا حتى العلماء والوزراء ومن فوقهم .ومن العجائب أننا سمعنا بآذاننا وقرأنا وروينا عن أعداء الإصلاح وأهله من افتراء الكذب على دعاته ما لا تستطيع عقولنا له تأويلا إلا بما كتبه شيخنا في هذه العبارة من الخبال في أنفسهم التي فسدت فطرتها:أو من فقد الإيمان بصحة النصوص إما فقدا تاما عاما وإما فقدا خاصا بالحال التي يفترون فيها الكذب وغيره من الجرائم على حد ما ورد في الحديث المتفق عليه"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن "الخ على أحد التأويلات له:ووجه العجب والغرابة في هذا النوع من الكذب:أنه بحسب الظاهر انتصار للدين ودفاع عنه وهو هدم له .
ثم أقول إن مثل من يقترف السيئات معتمدا على العفو والشفاعة كمثل من يرتكب الجرائم في ملأ من الناس وعلى رءوس الأشهاد متعرضا لقبض الشرطة عليه وسوقه إلى المحكمة لتحكم عليه بعقوبة الجريمة اعتمادا على أن الأمير أو السلطان قد يعفو عنه بعد الحكم عليه بالعقوبة ومثل هذا لا يختلف اثنان في حمقه والله تعالى قد بين لنا شرط نفع الأعمال الصالحة في مغفرة الذنوب وهو اقترانها بالتوبة الصحيحة كقوله في حكاية دعاء الملائكة للمؤمنين{ فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك} الآيات وقوله{ ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا ) وقوله{ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} وأما الشفاعة فحسبك قوله فيها{ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} مع الجزم بأنه تعالى لا يرضى بالكذب ولا بغيره من الجرائم .ومن يأذن تعالى بهم بالشفاعة لا يعلمهم غيره عز وجل .
ثم قال الأستاذ الإمام ما معناه:ومن الناس من يكتفي بالاعتذار عن ذنوبه وجرائمه بأنه غير معصوم ، وذكر بعض الشواهد عمن يظن أن لهم في الدين قدم صدق ، وقال إن من هذا رأيه يتصور أن الصدق واتباع الحق إنما هو شأن طائفة معدودة من البشر وهم الأنبياء عليهم السلام ، وكل من عداهم فليس من شأنه أن يثبت على عمل صالح ، ويكتفي بهذه التكأة في تسلية نفسه وتجريئها على الجرائم .
وكفى بهذا حمقا ، فليس يلزم من كون غير النبي ليس معصوما أن يكون إلف مآثم ، وحلف جرائم ، وخدن عظائم ، ولو لزم أن يكون الناس هكذا لكانت الشرائع عبثا ، والتهذيب لغوا ، ولفسدت الأرض وخرب العمران .
[ وهل يصح في حكم العقل أن يقال:إن الشرائع والحدود وضروب الوعد والوعيد لم ينعم الله بتشريعها إلا لأجل المعصومين ؟ وهل يحتاج المعصوم إلى وعد أو وعيد ؟ وما فائدتهما بالنسبة إليه ، وقد أيقن بتوفيق الله له وأنه لا يأتي أمرا يخالف ما أمر به ولا يقترف شيئا مما نهى عنه ؟ ثم كيف لا يكون لغير المعصومين نصيب في الوعيد ولا الزجر مع أنهم أحق الناس بالردع وأحوجهم إلى التخويف من سوء العاقبة ؟] .
وأما الاستعانة بالصلاة فهي أقرب إلى حصول المأمول وإرجاع النفس إلى الله تعالى لما لها من التأثير في الروح ، لكنها أشق على النفس الأمارة بالسوء .
ولذلك قال تعالى{ وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} أي لثقيلة شديدة الوقع كقوله{ كبر على المشركين ما تدعوهم إليه} إلا على المخبتين المتطامنة قلوبهم وجوارحهم لله تعالى .فهؤلاء هم الذين يستفيدون بالصلاة الصبر وكل الخلائق الحسنة لما تعطيه الصلاة من مراقبة الله تعالى .كما قال عز وجل{ إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا * إلا المصلين} فمن خواص الصلاة الصبر ونفى الجزع ، ومن خواصها النهي عن الفحشاء والمنكر .ومن خواصها الجود والسخاء – فالمصلي الحقيقي هو البار الحقيقي الذي لا يترك الحق لأجل شهوة ، ولا لما يعرض له في معاملاته مع الخلق من خوف وخشية .هذا أثر صلاة الخاشعين بالإجمال .ولذلك قال تعالى{ قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون} .