ولكن كيف تربي النفس على أن تكون متعظة قبل أن تعظ ؟ ذكر الله سبحانه وتعالى الدواء ؛ وهو الصبر ، والصلاة ، فقال تعالى:{ واستعينوا بالصبر والصلاة} . الاستعانة طلب العون والمساعدة ، وفي استعمال القرآن أنها إذا كانت للمعين تعدت بغير باء ، كقوله تعالى:{ وإياك نستعين ( 5 )} [ الفاتحة] وفي الدعاء "اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك"، وإذ كانت الاستعانة بما تكون به الإعانة كانت بالباء ، فيقال نستعين بكذا لفعل كذا ، وهكذا نجد بالاستقراء استعمال القرآن .
وهنا الاستعانة بشيء ولذا تعدت بالباء فقال تعالى:{ واستعينوا بالصبر والصلاة} أي استعينوا على تربية نفوسكم لتكون متعظة فاعلة الخير ، آمرة به ولا يتجافى فعلها عن قولها .{ بالصبر والصلاة} والصبر ضبط النفس وسيطرة الإرادة ، على الهوى ، وسيطرة العقل على الشهوة ، فإنه إذا سيطرت الإرادة والعقل والفكر المستقيم انقمعت الشهوات ، وإذا انقمعت استقامت النفس ، وكان التنسيق بين القول والعمل ، وقذف الله في القلب بنور الحكمة ، والقول الطيب ، والعمل ، وكل ما في الحياة يحتاج إلى الصبر ، فالجهاد قوته في الصبر ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم:( إنما الصبر عند الصدمة الأولى ){[78]} ، ونقص الأموال والأنفس والثمرات إنما يكون بالصبر . كما قال تعالى:{ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ( 155 ) الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ( 156 )} [ البقرة] .
ويقول الفاروق الإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"الصبر صبران صبر على المصيبة ، وهو حسن ، وصبر عن المعاصي وهو أحسن"{[79]} . فالصبر على المعاصي ، هو السيطرة على الأهواء والشهوات ، وهو تهذيب النفس وتقويمها .
هذه كلمات موجزات في الصبر ، وهو طريق السيطرة على النفس ، ولذا أمرنا الله تعالى بالاستعانة به .
أما الصلاة فإنها بما اشتملت عليه من ركوع وسجود وقراءة ، وخشوع ، واستحضار لعظمة الله تعالى وإحساس بأنه في حضرته وواقف بين يديه سبحانه وتعالى تنفعل نفسه في وجودها بحضرته ، بأوامره ، ونواهيه ، وطلب مرضاته . ولقد قال تعالى:{ اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر . . . ( 45 )} [ العنكبوت] ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم "إذا حزبه أمر صلى"{[80]} وكان يأمر بالصلاة ، من كان به وجع ليصبر وينسى ألمه ، فيقول صلى الله عليه وسلم:( قم فصل فإن الصلاة شفاء ){[81]} لأنه يكون في مناجاة بينه وبين ربه ، فينسى الدنيا وما فيها ينسى ألمه ووجعه ، وهمومه .
وإن الصبر والصلاة تجعلان النفس تتغلب على المحن ، كما تتغلب على الإحن ، فيلقى الله تعالى بقلب سليم ، قال تعالى:{ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ( 34 ) وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ( 35 )} [ فصلت] .
وإن الاستعانة بالصبر والصلاة ليست أمرا هينا لينا ، ولكنها أمر عظيم خطير ، لا يتلقاها إلا النفوس القوية ذات العزيمة الحازمة ؛ ولذا قال تعالى:{ واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} .
الضمير في قوله تعالى:{ وإنها} قيل إنه يعود إلى الضمير المنسبك من{ استعينوا بالصبر والصلاة} ، لأن الصبر والصلاة الحقيقية أمران كبيران خطيران عظيمان يسيران بالنفس في مدارج الكمال النفسي والروحاني ، فيكون الانسجام بين القول والعمل ، ولكن قد يقال إن المصدر غير موجود ، والضمير يعود إلى أقرب مذكور ، فعوده إلى الصلاة أقرب وأظهر ، ولذلك قال الأكثرون إنه يعود إلى الصلاة .
ولا شك أن الصلاة إذا أديت على وجهها باستحضار عظمة الله والشعور بأنه في حضرته سبحانه وتعالى ، حتى كأنه يراه ويخاطبه بقرآنه عندما يتلو آياته ، وأنه عندما يقول:إياك نعبد ، وإياك نستعين يحس بأنه في حضرته ، وأنه يخاطبه ، وأنه يناجيه ، فمقام{ إياك نعبد وإياك نستعين ( 5 )} [ الفاتحة] مقام ، لا يندرج فيه إلا الخاشعون .
والخاشع هو الخاضع المتطامن الساكن الذي لا يتحرك لشهوة ، والخشوع مظهر الخضوع الذي يظهر في الأعضاء والجوارح ، ولذلك يسند إليها فيقول تعالى:{ وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا ( 108 )} [ طه] فالخشوع خضوع كامل في النفس والجسم ، وأصله في القلب ؛ قال عمر لشاب قد نكس رأسه فقال له:"يا هذا ارفع رأسك فإن الخشوع ما في القلب"{[82]} . وقال علي كرم الله وجهه:الخشوع في القلب ، وأن تلين نفسك للمرء المسلم ، وألا تلتفت في صلاتك{[83]} .