هذا خطاب لبني إسرائيل في أمر يفعله علماؤهم ، ويرضى به سائرهم ، فيلامون جميعا عليه ، وهو خطة يسير عليها أسلافهم ، ويرضى عنها أخلافهم ، فصح أن يخاطب بها جميعهم ، إذ هو عيب فيهم سلفا وخلفا ، وهو عيب الناس إذا ضعف وازع الدين ، وغلب عليهم حب الدنيا ، وهو أن يأمروا الناس بالحقائق الدينية ، ويدعونهم إليها ، ولا يأخذون بهديها ، وتلك إحدى صفات النفاق ، وهي شأن الذين يلبسون الحق بالباطل ، ويكتمون ما أنزل الله تعالى ، فيكون قولهم مخالفا لفعلهم{ كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ( 3 )} [ الصف] .
كان أحبار اليهود في كل أدوارهم عندما صار التدين شكلا لا روح فيه ، ومظهرا لا حقيقة له كانوا يذكرون للناس حقائق دينية ، لا يعملون بها ، ويعلنون أمورا في نجواهم ينكرونها في جهرهم ، فكانوا يقررون أن أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم في كتبهم ، وينكرونها أمام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لكيلا يحاجوهم بها عند ربهم ، وكأنه سبحانه وتعالى لا يعلم خفي أمرهم .
ولذا خاطبهم الله سبحانه وتعالى مستنكرا تلك الحال فيهم ؛ لأن من فعلها منهم لم ينكرها سائرهم ، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع ، أي أنه كان منهم ، ويستنكره الله تعالى عليهم ، وإنكار الواقع توبيخ ، وبيان أنه لا يصح ، ولا ينبغي أن يكون ، والبر هو الخير ، وهو ضد الإثم ، والنبي صلى الله عليه وسلم عرف الإثم بأنه ( ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس ){[75]} .
والنص استنكار لحالهم من أنهم يأمرون الناس بالخير ، وينسون أنفسهم ، أي يتركونها من غير توجيه إليه ، ويكونون بمنزلة من ينسونها ، ولا يفكرون في أمرها ، مع أن دواعي التذكير والتفكر في ذات أنفسهم قائمة لأنهم يتلون الكتاب ؛ ولذلك قال تعالى في هذا النص السامي:{ وأنتم تتلون الكتاب} أي وأنتم تجددون تلاوته آنا بعد آن ، فالاستنكار للحال التي يجتمع فيها الأمر بالخير والحث عليه مع ترك أنفسهم لا تفعلها ، وكأنهم نسوها ولم يذكروها ، والمذكر دائم مستمر ، وليس الاستنكار للبر مجردا عما لابسه من حالهم ، لأن الأمر بالبر في ذاته ليس بمستنكر ، ولا يمكن أن يكون مستنكرا ؛ لأنه دعوة إلى الحق ، ولا تنكر الدعوة إلى الحق في ذاتها .
وإن حالهم من دعوة إلى الحق مع نسيان أنفسهم ، وتركه مع استمرار التذكير به ، وكان ينبغي مع التذكير التذكر – لا يغفله الذين يفكرون ويعملون عقولهم ؛ ولذا قال سبحانه:{ أفلا تعقلون} والاستفهام هنا للتنبيه إلى مناقضة حالهم للعقل المدرك .
والعقل مصدر عقل بمعنى منع ، ثم أطلق على ما يكون به الإدراك السليم لأنه يمنعه من القبيح ، ويعقله ويقصره على الجميل ، ومعنى الاستفهام ، أن حالهم هي حال من لا عقل له ولا إدراك ، و( ألا ) هنا – كما ذكرنا – للاستفهام والتنبيه إلى نفي ما وراءه ، والفاء فاء السببية أي بسبب هذه الحال يحكم عليهم بأنهم لا يعقلون ، وأخرت الفاء عن الهمزة لأن الاستفهام له الصدارة ، فهي مؤخرة عن تقديم .
وقد أشرنا إلى أن المستنكر هو الحال المجتمعة من دعوة إلى الخير وعدم العمل مع التذكير الدائم ، أما الأمر نفسه فلا إنكار فيه ، وقد تكلم الناس في أن من وقع في المعاصي أيجوز له أن ينهى عنها ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، أم يطهر نفسه من المعاصي ، ثم يتولى الإرشاد ؟ .
إن الحق أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب بنفسه ، تركه معصية كغيره ، ووقوعه في معاص غيره لا يسوغ له أن يتركه ، فيقع في معصية الترك ، نعم إن الموعظة نصابها الألفاظ ، كما قال الغزالي في إحدى رسائله ، ولكن الموعظة في ذاتها لا تحتاج إلى نصاب ، وقد قال سعيد بن جبير التابعي ، الشهيد في الحق الآمر بالمعروف:إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يكون ممن يقع في معصية ، فلن يكون هناك داع إلى الخير . ولكن مع ذلك يجب أن يروض المؤمن نفسه دائما على ألا ينهى عن أمر يقع هو فيه ، فيمتنع عن النهي عن المنكر ، ولكن يمتنع عن أن يقع فيما نهى عنه ، كما حكى الله عن نبيه شعيب عليه السلام:{ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ( 88 )} [ هود] .
وإن الواعظ الذي لم يكن يتعظ بوعظه يحاسب على إهماله بأكثر مما يحاسب عليه غيره ، ويحاسب أشد من كان يعلم الحق ولا ينطق به ، فيحرم الموعظة والاتعاظ ويحاسب من بعد حسابا عسيرا ، ولقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:( إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء ){[76]} . وروي:أنه ( يغفر للجاهل سبعين حين يغفر للعالم مرة واحدة ، ليس من يعلم كمن لا يعلم ){[77]} .
هذه عيوب من يأمرون بالخير ، ولا يأتمرون به ومن ينهون عن الشر ، ولا ينتهون عنه