قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه يرجعون (الهمزة في قوله: (أتأمرون (للإنكار والتوبيخ ،أو للتعجب من حالهم .{[55]}
البر معناه الطاعة وهو يتضمن كل وجوه الخير والفضل فيما يكون طريقا الى مرضاة الله سبحانه ،والنسيان الوارد في الايسة معناه الترك وليس ما يكون ضد الذكر والمقصود بالكتاب التوراة والإنجيل لما فيهما من خير ونور وذلك من قبل أن يصيبهما التزييف والتحريف .
والآية تتضمن توبيخا وتقريعا يلتذع بهما أهل الكتاب ،لأنهم يدعون الى الخير ويأمرون بالطاعات لكنهم يمتنعون من فعل شيء من ذلك ،فهم بذلك يأمرون بالفضائل ويتركون أنفسهم من الائتمار أو هم يخالفون عما أمروا به الى عكس ذلك من وجوه الحرام .
قوله: ( وأنتم تتلون الكتاب لأفلا تعقلون (الواو تفيد الحال ،والجملة الاسمية بعدها في محل نصب حال ،أي كيف يليق بكم أن تكونوا دعاة خير وبر أو أن تأمروا الناس بالطاعة والمعروف وأنتم تخالفون عن ذلك كله وتأتون خلاف ذلك الحرام والمنكر مع أنكم تقرأون ما في كتابكم المنزل عليكم من السماء والذي يأمر بالمعروف أولا ،وينهي عن عدم الائتمار بالمعروف ثانيا ،إذ لا يجوز لأحد بحال أن يأمر بخليقة حسنة ثم يأتي خلافها .
قوله تعالى: (أفلا تعقلون (أليست لكم عقول واعية متدبرة تكشف لكم عن وخامة هذا الخلق الفاسد المشين ؟ألستم تفهمون ؟فإن ذلكم من خلق الذين لا يعون ولا يدركون ،هكذا يشدد الله في التقريع المرير على أولئك الذين يدعون الى الخير ويأتون غيره أو ينهون عن الحرام والباطل وهم شالعون في ما نهوا عنه .وذلك خزي وعار تتلطخ بهما أخلاق الذين لا يستحيون من الله والذين يسعون في الأرض فاسدين مذبذبين حيث لا تتوافق أقوالهم وأفعالهم سواء في الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر .
ومن أشد ما جاء في الكر من حيث الإغلاط على هذا الصنف الكاذب الخسيس مخن النار قوله سبحانه: (يأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (.
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك"مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم بمقارض من نار ،قلت من هؤلاء يا جبريل ،قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم .{[56]}
وأخرج أحمد كذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم"يجاء بالرجل يوم القيامة ،فيلقى في النار ،فتتدلق به أقتابه ،فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه ،فيطيف به أهل النار فيقولون: يا فلان ما أصابك ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ،وأنهاكم عن المنكر وآتيه ".{[57]}
وعنه صلى الله عليه وسلم:"إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء وبذلك فإن كلمات الله تندد أشد تنديد بالذين يقولون ما لا يفعلون ،أو الذين يخالفون عما يأمرون به غيرهم ،أو الذين لا يأتمرون بما يدعون الناس إليه أو يحذرونهم منه ،وذلك خلق الفاسدين الجبناء من الناس الذين يقفون في خط النفاق ليكونوا في الأذلين مع الأشرار والتعساء والمعذبين يوم يقوم الناس لرب العالمين .
وتنديد القرآن بهذا الصنف الخسيس من البشر يظل قائما لا يبرح الأرض لأن الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه ،وينهون عن المنكر ويأتونه كثيرون ،وهم لا يخلوا منهم مجتمع من المجتمعات ،على أن هذا الخلق الذميم كان مركوزا على نحو واضح مستبين في بني إسرائيل ،وذلك مما يمكن الوقوف عليه من خلال الكلمات الربانية في القرآن الحكيم ،والتي تكشف عن إغراق أولئك الناس في الخسة والنفاق وهم يقولون ما لا يفعلون .