وقوله: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين (إقامة الصلاة بمعنى المداومة والثبات عليها وتأديتها على وجهها الصحيح ،وذلك من حيث أركانها وهيئتها وسننها ،وآتوا الزكاة من الإيتاء وهو الإعطاء ،وكل من الصلاة والزكاة قد ورد مجملا ليؤخذ التفصيل لكليهما من السنة المطهرة ،فإنها المخلوة ببيان ما أجمله القرآن كالصلاة والزكاة وغيرها .
وفي هذه الآية يأمر الله بني إسرائيل أن يلتزموا بعبارة الصلاة والزكاة ،ثم ليركعوا مع الراكعين من المسلمين .
وقد يتبادر للذهن تساؤل عن مخاطبة أهل الكتاب وتكليفهم بأجزاء الدين وفروعه مع أنهم كافرون وعلى ملة الشرك وفي تقديرنا أن الإجابة عن هذا التساؤل تحتمل الوجهين التاليين:
الأول: أن ذلك من باب المطالبة بالفرع ليكون التذكير بالأهم هو الأصل أي العقيدة وهي الأساس في هذا الدين كله .
الثاني: وهو التذكير بأهمية وخطورة مثل هذه الشعائر من حيث تأثيرها على النفس البشرية إذ تهذبها تهذيبا ،ذلك الذي يمكن تصوره ليون إجابة عن التساؤل والله سبحانه وتعالى أعلم .
وقوله:(واركعوا مع الراكعين (الركوع في اللغة الانحناء ،وهو في الصلاة مقترن بالخشوع والتذلل لله ،وقد ذكر الركوع لأهميته فهو أحد أركان الصلاة التي لا تنعقد إلا به ،وهو تعبير متذلل ينطق به الحس وتؤديه جوارح البدن ،في أوفى صور الخشوع والرهبة خلال حركة هادئة واعية ،تتلاقى فيها أعضاء البدن الممثل المنحني والشعور الخاشع المستفيض الموصول بالمثل الأعلى .
ونعرض هنا مسألة وهي صلاة الجماعة وذلك لإيجابه أداء الركوع مع جماعة الراكعين ،وقد جاء في حكم صلاة الجماعة جملة أقوال يمكن أن تقتضب منها الخلاصة التالية في أقوال ثلاثة:
الأول: أنها سنة مؤكدة فهي بذلك دون الفريضة فلمن أداها أجر كبير ،ومن لم يؤدها كان محروما من جزيل الثواب إلى أعده الله للمصلين في جماعة غير منفردين ،يضاف الى ذلك أن الحرمان من ثواب الجماعة لا ينقضي عقابا ،لأن العقاب يوجبه ترك الفريضة أو انتهاك الحرمان وهو قول الجمهور .
الثاني: أنها واجبة وأن تاركها آثم يستحق العقاب ،وذلك استنادا لبعض الأئمة في السنة يقضي ظاهرها بوجوب الجماعة ،وكذلك هذه الآية التي تنحن بصددها (واركعوا مع الراكعين (.
وقد ذهب الى وجوبها أحمد بن حنبل وأهل الظاهر وآخرون .
الثالث: أنها فرض كفاية بحيث يسقط الوجوب إذا ما أقيمت وأداها فريق من المسلمين وذلك الذي ذهب إليه بعض أهل العلم .
هذه خلاصة الأقوال الثلاثة الواردة في حكم الجماعة ،وإني وإن كنت أتصور أهمية هذه الأقوال جميعا ،نظرا لاستنادها الى الأدلة الصحيحة ،لكنني أطمئن للقول الأول وهو أن الجماعة من حيث الحكم تأتي على السنة المؤكدة وذلك بالنظر الى إمكانية التأويل لأدلة القولين الآخرين ،وهو تأويل يورد الاحتمال الذي ينخرم معه الاستدلال ،ويعزز القول بالسنية المؤكدة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:"صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ،وهو حديث صحيح أخرجه مسلم من طريق عبد الله بن عمر ،وفيه بيان بالأفضل والمفضول وأن المفضول لا يكون إلا صحيحا مشروعا وهو لا يوجب عقابا والله سبحانه أعلم .{[54]}