/م40
ثم قال جل ثناؤه{ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين} فبعد الدعوة إلى الإيمان اليقيني دعاهم إلى العمل الصالح على الوجه النافع المرضى لله تعالى وكانوا ضلوا عنه بالتمسك بالظواهر والوقوف عند الرسوم فقد كانوا يصلون ولكنهم ما كانوا يقيمون الصلاة ، لأن الإقامة هي الإتيان بالشيء مقوما كاملا وهي في الصلاة التوجه إلى الله تعالى بالقلب والخشوع بين يديه والإخلاص له في الذكر والدعاء والثناء ، فهذا هو روح الصلاة الذي شرعت لأجله ولم تشرع لهذه الصورة ، فإن الصورة تتغير في حكم الله تعالى على ألسنة أنبيائه لأنها رابطة مذكرة ، فلم تكن للأنبياء صورة واحدة للصلاة ، ولكن هذا الروح لا يتغير فهو واحد لم يختلف فيه نبي ولم ينسخ في دين .
ثم أمر بعد الصلاة التي تطهر الروح وتقربها من الله تعالى بالزكاة التي هي عنوان الإيمان ومظهر شكر الله على نعمه والصلة العظيمة بين الناس .وقد عهد في القرآن قرن الأمر بإتيان الزكاة بإقامة الصلاة ، ومن أقام الصلاة لا ينسى الله تعالى ولا يغفل عن فضله ، ومن كان كذلك فهو جدير ببذل المال في سبيله ، مواساة لعياله ومساعدة على مصالحهم التي هي ملاك مصلحته ، فإن الإنسان إنما يكتسب المال من الناس بحذقه وعمله معهم فهو لم يكن غنيا إلا بهم ومنهم ، فإذا عجز بعضهم عن الكسب لآفة في فكره ونفسه أو علة في بدنه ، فيجب على الآخرين الأخذ بيده ، وأن يكونوا عونا له حفظا للمجموع الذي ترتبط مصالح بعضه بمصالح البعض الآخر ، وشكرا لله على ما ميزهم به من النعمة ، وظاهر أن الغني في حاجة دائمة إلى الفقير كما أن الفقير في حاجة إليه ، ولكن النفوس تمرض فتغفل عن المصلحة في بذل المال ومساعدة الفقير والضعيف مبالغة وغلوا في حب المال الذي هو شقيق الروح كما يقولون ، لهذا جعل الله بذل المال والإنفاق في سبل الخير علامة من علامات الإيمان ، وجعل البخل من آيات النفاق والكفر كما سيأتي في بعض الآيات .
قال الأستاذ الإمام:إن البخل – ومنبعه القسوة على عباد الله تعالى والحرص على المال استرسالا في الشهوات ، وميلا مع الأهواء – لا يجتمع مع الإيمان الصحيح في قلب واحد قط .وليس لأحد أن يزعم أنه يؤمن بالله وبما أنزل على رسله من الأوامر والنواهي حتى يقوم بما أمر الله فيما طلب منه على ما يحب الله ويرضى .
ثم أمر بعد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالركوع مع الراكعين ، والركوع صورة الصلاة أو جزء من أجزائها ، وقد أخره ولم يصله بالصلاة لحكمة جليلة لا رعاية للفاصلة كما زعم بعض المفسرين ، فليس من الجائز أن يكون في القرآن ما يعرض فيه إخلال بالمعنى لأجل رعاية الفاصلة ، بل هذا لا يرتضيه البلغاء من الناس فكيف يقع في كلام الله تعالى ؟ وإنما وردت هذه الأوامر الثلاثة مرتبة كما يحب الله تعالى فإقامة الصلاة في الرتبة الأولى من عبادة الله تعالى لأنها روح العبادة والإخلاص له ، ويليها إيتاء الزكاة لأنها تدل أيضا على زكاة الروح وقوة الإيمان ، وأما الركوع وهو صورة الصلاة البدنية أو بعض صورتها أشير به إليها فهو في المرتبة الثالثة فرض للتذكير بسابقيه وما هو بعبادة لذاته ، وإنما كان عبادة لأنه يؤدى امتثالا لأمر الله تعالى وإظهارا لخشيته ، والخشوع لعظمته ، ولكنه قد يصير عادة لا يلاحظ فيها امتثال ولا إخلاص فلا يعد عند الله شيئا ، وإن عده أهل الرسوم كل شيء ، بخلاف إقامة الصلاة بالمعنى الذي ذكرناه وإيتاء الزكاة ، ولا يخفى أن الفصل بين معني الصلاة وصورتها بالزكاة فيه تعظيم لشأن الزكاة .وسنتكلم على الزكاة والإنفاق في سبيل الله بالتفصيل في تفسير آية أخرى إن شاء الله تعالى .
( استدراكات وبيان لأغلاط معنوية )
ذكرت ما قاله الأستاذ الإمام في تفسير ( واركعوا مع الراكعين ) بعد الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة .وفاتني أن أذكر ما أفهمه أنا في هذا الأمر بعد الأمرين ، وهو أنه أمر بصلاة الجماعة أي وصلوا مع المصلين لا فرادى ، وهو يؤيد بظاهره قول من قال بوجوبها .ويصح الجمع بينه وبين ما قاله شيخنا رحمه الله تعالى .ويأتي مثله في أمر مريم عليها السلام بذلك وحينئذ لا يحتاج إلى بيان حكمة أو نكتة لقوله تعالى ( مع الراكعين ) دون الراكعات لأن تغليب الذكور في صلاة الجماعة أظهر من تغليبهم في الصلاة مطلقا .