{ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ( 45 ) واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ( 46 ) الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون}
الكلام موجه إلى بني إسرائيل وقد تقدم في الآيات السابقة أن الله ذكرهم بنعمته ، وأمرهم بالوفاء بعهده ، وأن يرهبوه ويتقوه وحده ، وأن يؤمنوا بالقرآن ، ونهاهم أن يكونوا أول كافر به ، وأن يشتروا بآياته ثمنا قليلا ، وأن يلبسوا الحق بالباطل ويكتموه عمدا .ثم أمرهم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وطفق في هذه الآيات يوبخهم على سيرتهم المعوجة في الدين ، ويهديهم إلى طريق الخروج منها .
اليهود كسائر الملل يدعون الإيمان بكتابهم والعمل به ، والمحافظة على أحكامه والقيام بما يوجبه ، ولكن الله تعالى علمنا أن من الإيمان – بل مما يسمى في العرف إيمانا – مالا يعبأ به ، فيكون وجوده كعدمه ، وهو الإيمان الذي لا سلطان له على القلب ، ولا تأثير له في إصلاح العمل ، كما قال{ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} وكانت اليهود في عهد بعثه عليه الصلاة والسلام قد وصلوا في البعد عن جوهر الدين إلى هذا الحد .كانوا – ولا يزالون – يتلون الكتاب تلاوة يفهمون بها معاني الألفاظ ، ويجلون أوراقه وجلده ، ولكنهم ما كانوا يتلونه حق تلاوته ، لأن الذين يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به كما قال تعالى وعلى الوجه الذي يرضاه تعالى:يتلون ألفاظه وفيها البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم ويأمرون بالعمل بأحكامه وآدابه من البر والتقوى ، ولكن الأحبار القارئين الآمرين الناهين ما كانوا يبينون من الحق إلا ما يوافق أهواءهم وتقاليدهم ، ولا يعملون بما فيه من الأحكام إلا إذا لم يعارض حظوظهم وشهواتهم .فقد عهد الله إليهم في الكتاب أنه يقيم من إخوانهم نبيا يقيم الحق{[29]} وفرض عليهم الزكاة ، ولكنهم كانوا يحرفون البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم ويؤلونها .ويحتالون لمنع الزكاة فيمنعونها ، وجعلت لهم مواسم واحتفالات دينية تذكرهم بما آتى الله أنبياءهم من الآيات وما منحهم من النعم لينشطوا إلى إقامة الدين والعمل بالكتاب .ولكن القلوب قست بطول الأمد ففسقت النفوس عن أمر ربها .وهذه التوراة التي بين أيديهم لا تزال حجة عليهم ، فلو سألتهم عما فيها من الأمر بالبر والحث على الخير لاعترفوا وما أنكروا ، ولكن أين العمل الذي يهدي إليه الإيمان ، فيكون عليه أقوى حجة وبرهان .
كذلك كان شأن أحبار اليهود وعلمائهم في معرفة ظواهر الدين بالتفصيل وكان عامتهم يعرفون من الدين العبادات العامة والاحتفالات الدينية وبعض الأمور الأخرى بالإجمال ، ويرجع المستمسك منهم بدينه في سائر أموره إلى الأحبار فيقلدهم فيما يأمرونه به ، وكانوا يأمرونه صوابا فيما ليس لهم فيه هوى ، وإلا لجأوا إلى التأويل والتحريف والحيلة ليأخذوا من الألفاظ ما يوافق الهوى ويصيب الغرض ، فإذا وجه الخطاب في قوله تعالى{ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} إلى حملة الكتاب فذاك لأن الأمر والنهي وظيفتهم ، وإذا كان عاما فذاك لأن شأن العامة فيما يعرفون من الدين بالإجمال كشأن الرؤساء فيما يعرفون بالتفصيل ، ولا يكاد يوجد أحد لا يأمر بخيره ولا بحث على بر ، فإذا كان الآمر لا يأتمر بما يأمر به فالحجة قائمة عليه بلسانه .
وبخ الله هؤلاء القوم على أنهم كانوا يأمرون الناس بالبر كالأخذ بالحق ومعرفته لأهله ، وعمل الخير والوعد عليه بالسعادة مع الغفلة عن أنفسهم وعدم تذكيرها بذلك ، وما أجمل التعبير عن هذه الحالة بنسيان الأنفس ، فإن من شأن الإنسان أن لا ينسى نفسه من الخير ولا يحب أن يسبقه أحد إلى السعادة ، كأنه يقول:إذا كنتم موقنين بوعد الكتاب على البر ووعيده على تركه فكيف نسيتم أنفسكم{ وأنتم تتلون الكتاب} وتأمرون الناس بإتباعه وتعرفون منه ما لا يعرفه المأمورون ؟ أفيعلمون مع نقص العلم بفائدة العمل ، ولا تعملون على كمال العلم وسعته ؟ ولما كان هذا غير معقول قفى على استفهام التوبيخ بقوله{ أفلا تعقلون} يعني ألا يوجد فيكم عقل يحبسكم عن هذا السفه ؟ فإن من له مسكة من العقل لا يدعى كمال العلم بالكتاب والإيمان اليقيني به والقيام بالإرشاد إليه:هذا كتاب الله ، هذه وصايا الله ، هذا أمر الله ، قد وعد العامل به السعادة في الدنيا أو الآخرة أو كليهما ، فخذوا به واستمسكوا بعراه ، وحافظوا عليه ، - ثم هو لا يعمل ولا يستمسك ؟
مثل من كانت هذه حاله كمثل رجل أمامه طريق مضيء نصبت فيه الأعلام والصوى بحيث لا يضل سالكه ، ثم هو يسلك طريقا آخر مظلما طامس الأعلام وكلما لقي في طريقه شخصا نصح له أن لا يمشي معه ، وأن يرجع إلى طريق الهدى الذي تركه ، أو مثل ساغب يدعو الناس على المائدة الشهية ، ويبيت على الجوع والطوى ، أو صاد يدل العطاش على مورد الماء ولا يرد معهم .
إذا كان هذا لا يقع من صحيح العقل فكذالك أمر المؤمن بشعب الإيمان وعدم الائتمار بها ، مع تذكرها وتلاوة كلام الله فيها .فلا بد لتعقل هذا من القول بأن الإيمان بالوعد على البر والوعيد على الفجور غير يقيني عند الآمر المخالف .ويؤيده أن القوم كانوا عقلاء في كسب المال وحفظ الجاه الدنيوي وإنما ضلوا من جهة الدين بأخذه على غير وجهه .
الخطاب عام لليهود الذين كان هذا حالهم وعبرة لغيرهم لأنه منبئ عن حال طبيعية للأمم في مثل ذلك الطور الذي كانوا فيه ، ولذلك كان القرآن هداية للعالمين إلى يوم الدين ، لا حكاية تاريخ يقصد بها هجاء الإسرائيليين ، فلتحاسب أمة نفسها في أفرادها ومجموعها لئلا يكون حالها كحال من ورد النص فيهم فيكون حكمها عند الله كحكمهم ، لأن الجزاء على أعمال القلوب والجوارح ، لا لمحاباة الأشخاص والأقوام أو معاداتهم .
( فإن قيل ) إن من يأمر غيره بالبر وينسى نفسه قد يكون متكلا في ترك العمل على الشفاعات والمكفرات ، كالأذكار والصدقات ، لا أنه يترك لعدم اليقين في الإيمان ، وإذا أمر غيره بالبر مع هذا فذاك لأنه يلاحظ المكفرات في شأن نفسه ولا يلاحظها في شأن غيره .
( نقول ) إن العالم بالدين لا يخفى عليه أن حكم الله تعالى واحد عام ، فكيف يحتم البر على غيره ويوهمه أنه لا يقر به من رضوان الله ويبعده من سخطه إلا هو ، وينسى نفسه فلا يحتم عليها ذلك ؟ ثم كيف يجهل أن الشفاعات والأعمال الصالحة التي ورد أنها تكفر السيئات لا يصح أن تكون مثبطة عن عمل البر أو سببا لتركه لأنه خلاف المقصود من الدين ؟ فهل يكون فرع من فروع الدين هادما لأصوله وسائر فروعه ؟ كل ذلك كان ينبغي أن يكون بعيدا عن العالم بالدين الذي يتلو كتاب الله تعالى ولكن هذا الضرب من الخذلان يعرض لأرباب الأديان عند فساد حال الأمم ، فنبه الله تعالى عليه بهذا التعبير اللطيف وهو نسيان النفس مع تلاوة الكتاب ، فكأن الزاعم أنه مؤمن ولا يعمل عمل الإيمان ، نسي أنه هو الذي يزعم الإيمان ، وصاحب هذا النسيان يمضي في العمل القبيح من غير فكر ولا روية بل انبعاثا مع الحظوظ والشهوات التي حكمها في نفسه ، وملكها زمام عقله وحسه ، ولكنه لا يلاحظها في غيره عند ما يعرض عليه عمله السيء أو يراه معرضا عن عمل البر ولذلك يعظه ويذمه .