)أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( البقرة:44 )
التفسير:
قوله تعالى:{أتأمرون الناس بالبر ...}: الاستفهام هنا للإنكار ؛والمراد إنكار أمر الناس بالبر مع نسيان النفس ؛إذ النفس أولى أن يبدأ بها ؛و"البر "هو الخير ؛قال أهل التفسير: إن الواحد منهم يأمر أقاربه باتباع الرسولصلى الله عليه وسلم ،ويقول: إنه حق ؛لكن تمنعه رئاسته ،وجاهه أن يؤمن به ؛ومن أمثلة ذلك أن النبيصلى الله عليه وسلم عاد غلاماً من اليهود كان مريضاً ،فحضر أجله والنبي صلى الله عليه وسلم عنده ؛فدعاه النبيصلى الله عليه وسلم إلى الرشد ،فنظر إلى أبيه كأنه يستشيره ،فقال له أبوه:"أطع أبا القاسم ".وأبوه يهودي .،فتشهد الغلام شهادة الحق ،فخرج النبيصلى الله عليه وسلم وهو يقول:"الحمد لله الذي أنقذه بي من النار "{[82]} أي بدعوتي ؛إذاً هؤلاء اليهود من أحبارهم من يأمر الناس بالبر .وهو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم .ولكنه ينسى نفسه ،ولا يؤمن ؛فقال الله تعالى:{وأنتم تتلون الكتاب} أي تقرؤون التوراة ؛والجملة هنا حالية .أي والحال أنكم تتلون الكتاب .؛فلم تأمروا بالبر إلا عن علم ؛ولكن مع ذلك{تنسون أنفسكم} أي تتركونها ،فلا تأمرونها بالبر ..
قوله تعالى:{أفلا تعقلون}: الاستفهام هنا للتوبيخ .يعني أفلا يكون لكم عقول تدركون بها خطأكم ،وضلالكم .؟!و"العقل "هنا عقل الرشد ،وليس عقل الإدراك الذي يناط به التكليف ؛لأن العقل نوعان: عقل هو مناط التكليف .وهو إدراك الأشياء ،وفهمها .؛وهو الذي يتكلم عليه الفقهاء في العبادات ،والمعاملات ،وغيرها ؛وعقل الرشد .وهو أن يحسن الإنسان التصرف .؛وسمي إحسان التصرف عقلاً ؛لأن الإنسان عَقَل تصرفه فيما ينفعه ..
الفوائد:
. 1 من فوائد الآية: توبيخ هؤلاء الذين يأمرون بالبر ،وينسون أنفسهم ؛لأن ذلك منافٍ للعقل ؛وقد ورد الوعيد الشديد على من كان هذا دأبه ؛فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم"أنه يؤتى بالرجل فيلقى في النار فتندلق أقتابه ".و "الأقتاب "هي الأمعاء . "فيدور كما يدور الحمار برحاه ،فيجتمع إليه أهل النار ،فيقولون: يا فلان ،أليس كنت تأمرنا بالمعروف ،وتنهانا عن المنكر ،فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ،وأنهاكم عن المنكر وآتيه "{[83]}؛فهو من أشد الناس عذاباً .والعياذ بالله ...
فإن قال قائل: بناءً على أنه مخالف للعقل ،وبناءً على شدة عقوبته أنقول لمن لا يفعل ما أَمَر به ،ومن لا يترك ما نهى عنه:"لا تأمر ،ولا تنهَ "؟
فالجواب: نقول: لا ،بل مُرْ ،وافعل ما تأمر به ؛لأنه لو ترك الأمر مع تركه فِعلَه ارتكب جنايتين: الأولى: ترك الأمر بالمعروف ؛والثانية: عدم قيامه بما أمر به ؛وكذلك لو أنه ارتكب ما ينهى عنه ،ولم يَنْهَ عنه فقد ارتكب مفسدتين: الأولى: ترك النهي عن المنكر ؛والثانية: ارتكابه للمنكر ..
ثم نقول: أينا الذي لم يسلم من المنكر !لو قلنا: لا ينهى عن المنكر إلا من لم يأت منكراً لم يَنهَ أحد عن منكر ؛ولو قلنا: لا يأمر أحد بمعروف إلا من أتى المعروف لم يأمر أحد بمعروف ؛ولهذا نقول: مُرْ بالمعروف ،وجاهد نفسك على فعله ،وانْهَ عن المنكر ،وجاهد نفسك على تركه ..
. 2ومن فوائد الآية: توبيخ العالم المخالف لما يأمر به ،أو لما ينهى عنه ؛وأن العالم إذا خالف فهو أسوأ حالاً من الجاهل ؛لقوله تعالى:{وأنتم تتلون الكتاب}؛وهذا أمر فُطر الناس عليه .أن العالم إذا خالف صار أشد لوماً من الجاهل .؛حتى العامة تجدهم إذا فعل العالم منكراً قالوا: كيف تفعل هذا وأنت رجل عالم ؟!أو إذا ترك واجباً قالوا: كيف تترك هذا وأنت عالم ؟!.
. 3ومن فوائد الآية: توبيخ بني إسرائيل ،وأنهم أمة جهلة حمقى ذوو غيٍّ ؛لقوله تعالى:{أفلا تعقلون} ..
. 4ومنها: أن من أمر بمعروف ،ولم يفعله ؛أو نهى عن منكر وفعله من هذه الأمة ،ففيه شبه باليهود ؛لأن هذا دأبهم .والعياذ بالله ...