تبدأ هذه الآيات في جوّ رحيم نابض بالعاطفة ،يدعو فيه اللّه بني إسرائيل إلى أن يتذكروا نعمه التي أنعمها عليهم بالرسالات الكبيرة التي جعلتهم في مركز القيادة للنّاس ،من خلال الفكرة الممتدة في الكون امتداد الحياة ،والروح المنفتحة على مشاعر النّاس وآمالهم وآلامهم ،حتى تحسّ به يضمهم في عناق حالم واحتضان لذيذ ،ليربط على قلوبهم ويخفف من عبء الحياة وجهدها عنهم ،ويسير بهم إلى الجوّ العابق بالطهر النابض بالحنان ،المتحرّك بالحقّ والخير والجمال ،وذلك في لحظات اللقاء به .وهذا الجوّ الذي تثيره هاتان الآيتان هو ما يجب أن تعيشه القيادة فكراً ومسؤولية وقدوة ،ليتمثّل في حياة الآخرين حياة مليئة بالفاعلية والحركة والإيمان ،فكان الأنبياء منهم هم قادة النّاس وهداتهم .
ولم تقتصر النعم على ذلك ،بل انطلقت إلى حياتهم كلّها لتملأها بالخير والبركة والأمن والطمأنينة والخلاص من كيد الظالمين ،من الطغاة والفراعنة ،بعيداً عن كلّ ذلٍّ وامتهان .
إنها الدعوة إلى التذكر الواعي المنطلق من دراسة الماضي والحاضر ،في واقع النعمة بجميع أشكالها وألوانها وأوضاعها التي جعلت حياتهم منفتحةً على الخير ،في كلّ شؤونهم ،وعلى الرفعة الاجتماعية في كلّ مظاهرها .
] يَابَنِي إِسْرَائيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ[ ولا تغفلوا عنها كما يعيش النّاس الغفلة عن الواقع من خلال استغراقهم فيه ،فلا يتحسسونه بشكل واع ،لتتعرفوا من خلال ذلك الامتيازات الحياتية التي منحكم اللّه إياها ،] وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ[ بالنعمة التي قد تتحوّل إلى تفضيل بالقيمة ،إذا أخذتم بأسباب الاستقامة في خطّ اللّه على أساس التقوى .
وفي ضوء ذلك ،نفهم أنَّ التفضيل ليس تفضيلاً طبقياً يمنحهم القيمة الذاتية التي يشعرون معها بالعلو على النّاس ،بل هو تفضيل النعمة بما أغدقه اللّه عليهم من ألطافه وفيوضاته ،ما يستوجب الشكر والطاعة والتقوى .ولعلّ هذا الجوّ الذي يريد القرآن الكريم أن يضع التفضيل فيه في موقع النعمة ،هو الذي جعل الآية الثانية تمثّل الدعوة إلى التقوى والخوف من اليوم الآخر ،الذي يقف فيه كلّ إنسان أمام عمله ومسؤوليته ،ليواجه مصيره بعيداً عن كلّ الامتيازات الطبقية والعائلية ،وعن كلّ البدائل التي يمكن أن يفكر بها الإنسان في التخلّص من مسؤوليته ...إنه الموقف الذي يحسّ الإنسان فيه بإنسانيته في مسارها الروحي والعملي عندما تلتقي باللّه ،ليعرف أنها طريق الخلاص الوحيد .
وربما كان في هذه الآية بعض الإيحاء إلى هؤلاء اليهود الذين عاشوا في زمان النبيّ( صلى الله عليه وسلم ) ممن وقفوا ضدّ الرسالة ،بأنّ عليهم أن ينسجموا مع خطّ الدعوة الجديدة ،باعتبارها مظهراً للتقوى والانقياد إلى اللّه ،كونها تمثّل إرادته الحقيقية الأخيرة في خطّ الرسالات . وهذا ما نستوحيه من الآية:{وَاتَّقُواْ يَوْمًا}