{لاَّ يَضِلُّ رَبّي}: لا يخطىء ولا يجهل .
{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأولَى} ربما كان السؤال عن القرون الأولى ،في نطاق السؤال عن أمر المعاد ،الذي هرب إليه فرعون ،بعد أن أعياه مواجهة أمر الربوبية في ما فصّله موسى من الحديث عنها بما لا مجال فيه للرد والاعتراض ،فكأنه قال لموسى ،ما حال الأمم والأجيال الماضية الذين لا يرون ما ترى ،وقد ماتوا وانتهوا في عالم الفناء والنسيان ،فكيف يعذبون ،كما تقول ،إن العذاب على من أدبر وتولى ،وكيف يواجهون المسؤولية ،فكيف يرجعون من جديد لينالوا ما يستحقون ،كما تزعم .
{قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} فكان جوابه أنّ علمها عند الله ،فهو محيطٌ بأشخاصهم وأعمالهم ،فلا يفوته منها شيء ،ولا يغيب عنه شيء ،فهو مثبت في كتاب محفوظ واسع شامل لدى الله الذي لا يضل عن حقائق الأشياء ولا ينسى ما علمه منها ،لأنها حاضرة لديه حضوراً مطلقاً ،لا حدود له في كل جوانبها .وهكذا يملك أمرهم وحسابهم من خلال إحاطته المطلقة بكل أمورهم في ما عملوه ،فيحاسبهم على ذلك بشكل دقيق .
ولكن هذا الاحتمال لا يظهر من الآية التي يبدو أنها مسوقة للحديث عن الربوبية وذلك من خلال الاستمرار في هذا الشأن في الآيات التالية المتحدثة عن صفات الله في حركة الخلق في الكون ،في ما يدل على عظمته وتوحيده ،وليس فيها من حديث المعاد قليل أو كثير ..
* * *
فرعون يثير الأفكار السلبية في مواجهة موسى( ع )
وهناك احتمال آخر ،وهو أن السؤال متّجه للحديث عن تاريخ الأمم الأولى المنقرضة ،ليصرف موسى عن التكلم عن أصول المعارف الإلهية وإقامة البرهان على صريح الحق في مسائل المبدأ والمعاد ،مما تنكره الوثنية ويشغله بما لا فائدة فيه من تواريخ الأولين وأخبار الماضين ،فكان جواب موسى متعلّقاً بإرجاع العلم بها إلى الله ،وأنه من الغيب الذي لا يعلمه إلا علاّم الغيوب ..
وهناك احتمال آخر يقرب من هذا الاحتمال ،ولكنه يتجه اتجاهاً آخر ،وهو أن فرعون أراد إثارة موضوع القرون الأولى ليثير الأجواء السلبية حول موسى ،لإيجاد جو عاطفي في المجتمع المحيط بموسى يدفع هؤلاء باتجاه الدفاع عن آبائهم الذين يرميهم موسى بالضلال ،ويحكم عليهم بالعذاب .فكان إيكال موسى علم هؤلاء في مصيرهم إلى الله الذي يعلم من جزئيات أعمالهم ما لا نعلمه ،مما أحاط به ولم نحط ،لوناً من ألوان الخروج من أجواء الجدل الضائع الذي لا يؤدي إلى نتيجة ويدخل الحديث في متاهات انفعالية لا مجال للخروج منها إلا بالوقوع في كثير من المشاكل الاجتماعية ..
وهذا أسلوب حكيم يحتاج الإنسان الداعية إلى الأخذ به في مواجهة الأشخاص الذين يريدون إيقاعه في أجواء الإثارة الاجتماعية أو السياسية الانفعالية العاطفية التي يتحرك الناس فيها بعيداً عن أية حالة عقلية ،ما يخلق الكثير من الإرباك العملي في مجال الدعوة إلى الله ،والجهاد في سبيله .فيحاول الداعية الهروب من ذلك بتوجيه المسألة إلى اتجاه لا يثير الكثير من الجدل بإيكال الأمر إلى الله في الأمور التي أحاط بها علمه ،والله العالم بحقائق آياته .