{لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} بكل زخارف الدنيا وزينتها ،وبكل مواقع الشهوات ومراتعها ،وبكل مظاهر القوة وأدواتها ،فهي مشغولة بذلك كله ،مبهورة بالألوان اللامعة ،بالصور الساحرة ،في حالة من اللهو المتحرك في نبضاتها ،المهتز في مشاعرها ،حيث لا تطمئن إلى هدوء الفكر ،وصفاء الروح ،وإشراقة الوجدان ،لتكتشف ،من خلال ذلك كله ،أن وراء كل هذه الأوضاع اللاهية الباهرة عمقاً للحياة ،بما تختزنه من مشاكل ومتاعب وبلايا وآلام ،مما قد ينسف كل هذا الواقع الذي يسترخون فيه ،ويطمئنون إليه ،فلو تصوره الناس بحقيقته لابتعدوا عن الاستسلام لما يستسلمون له الآن ،وأعرضوا عن اللهو الذي يأخذون به .
ولعل مشكلة اللهو القلبي أخطر من مشكلة اللهو الجسدي ،لأنه يستنزف كل عناصر الإحساس الجدي في عمق الذات ،بينما يتحرك اللهو الجسدي ليشغل العين واليد واللسان ..،وبذلك يبتعد الإنسان عن خط الالتزام في حركة الواقع من خلال الرسالة .
وقد أبعدهم هذا اللهو عن الارتباط بالحقيقة الرسالية ،ولكنه لم يبعدهم عن الشعور بالخطر الذي قد يتهددهم ،نتيجة ما يثيره الرسول في أفكارهم من إيمان يهزّ معتقداتهم ،وهداية تصيب عقول أبنائهم بالانحراف كما يتصورون .ولِذلك كانوا يحاولون أن يرسموا الخطط ،ويدرسوا الأساليب التي تنقذ ساحتهم من ذلك كله .وهذا ما أثارته الفقرة التالية من الآية{وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أنفسهم بالكفر والانحراف ،وائتمروا فيما بينهم في أجواء المناجاة التي كانوا يتداولون فيها الشعار المثير الذي يطرحونه في الناس لإبعادهم عن خط الرسول ويحذرون به بعضهم البعض من الانجذاب إليه ،مما يمكن أن يتأثروا به من دعوته ،وذلك في الدائرة السرية من أحاديثهم .
مناقشة الكفار
{هَلْ هَذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} إنه تساؤل الكفار المتخلِّف الذي يطرح مسألة البشرية كعنصر مضاد لفكرة النبوة في إيحاء يفرض النبوة غيباً لا يليق إلا بالمخلوقات الغيبية المتميزة عن الناس بأشكالها الخاصة ،وطاقاتها المختلفة .وفي ضوء ذلك ،فإن القضية لا تعدو أن تكون من الأسرار الخفية للبشر من خلال ما يتميز به السحرة الذين يتقنون الأساليب الفنية الساحرة والألاعيب العجيبة المثيرة التي تأخذ بألباب الناس ،وتسحر أبصارهم ،وتثير فيهم الأحاسيس والمشاعر الحميمة .إنه السحر الذي يتمثل في الكلمات ،فهل تتركونه يؤثر فيكم من دون اختيار ؟!
{أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} الأشياء المحيطة بكم ،على طبيعتها ،في نظرة سليمة لا مجال فيها للإشكال والارتياب ،فكيف لا تواجهونه بالرفض ،لتنقذوا عقولكم من سحره ؟
ولكن الرسول الذي يعيش وضوح الرؤية في صفاء الوحي والرسالة ،لا يهتز أمام هذه التصورات والكلمات ،لأنه يعرف العقدة النفسية التي تكمن خلفها ،والزاوية الضيقة التي تتحرك فيها ،بل يبقى ثابتاً يتطلع إلى الله كمسؤول أمامه ،خاضع له في كل شيء ،فهو يشير إليه ،في حديثه معهم ،ليوحي إليهم بأن كلماتهم لا تهمه ولا تثيره ،ولا تُسقط موقفه ،لأنه ليس مسؤولاً أمامهم ليفكر في غضبهم ورضاهم ،أو في طريقة إيمانهم به ،أو تنكرهم له .ولذلك كان جوابه حاسماً ،مؤكداً أنه لا يملك من الأمر شيئاً ،فقد بلّغهم رسالة الله ،وانتهى دوره في ذلك .