وقوله تعالى:{ إلا استمعوه وهم يلعبون} حالان ، حال بعد حال ، والحال الثانية عن سببه عن الحال الأولى ، ف{ لاهية} سببها تلقي الآيات التي تجدد الإيمان لمن له لقب ، باللعب والعبث والسخرية وعدم الاعتبار والتبصير والتدبر ، مع السخرية والاستهزاء ، وبسبب ذلك تلهو قلوبهم ، وتنصرف عن الإصغاء إلى الحق ، وإنهم وهم في حال اللهو واللعب والانصراف عن الحق تماما – يعملون على مقاومته فيجتمعون ويتشاورون كيف يردون دعوة الرسول ، وماذا يقولون لصد غيرهم عن سبيل الله وقد أضاء الحق في ظلام الجاهلية ، اجتمعوا في كن من الخفاء ، وهذا معنى قوله تعالى{ وأسروا النجوى} النجوى والتناجي:التحدث في سر لا جهر فيه ، ومعنى{ أسروا النجوى} تشاوروا في الأمر بعيدا عن الناس ، وبالغوا في الإسرار ، لكي يتدبروا الأمر الخطير الذي فوجئوا به ، ويصرفوا الناس عنه ويعودوا إلى دين آبائهم ، وقوله تعالى:{ الذين ظلموا} بدل من "واو الجمع"في قوله{ وأسروا} وفائدة ذكر هذا البدل ، وصفهم بأنهم كانوا ظالمين في هذا التشاور والتآمر على الحق والصد عن سبيل الله ، كما كانوا ظالمين في الإعراض عن ذكر الله المتجدد آية بعد آية ، ورسولا بعد رسول .
وقد كانت نتيجة تآمرهم قولهم:{ هل هذا إلا بشر مثلكم} الاستفهام هنا للإنكار ، والمعنى:ما هذا إلا بشر مثلكم ، وهذا تسويغ لإنكارهم ، لأنهم لا يعتقدون أن الرسول لا يكون من جنس البشر بل يكون من الملائكة ، فهم يريدون أن يلقوا في روع الناس أن هذا مثلهم ، فلا يمكن أن يكون نبيا مرسلا ، والاستفهام الذي يدل على النفي فيه تنبيه لهم ، وكأن النفي من السامع لا من المتكلم .
وقد بينوا أن إيمانهم به إيمان بالسحر ، فقالوا:{ أفتأتون السحر وأنتم تبصرون} "الفاء"عاطفة على فعل محذوف تقديره أتصدقونه فتأتون السحر وأنتم تبصرون ، ومعنى إتيانهم السحر حضوره ومشاهدته فكأنهم هم الذين أتوه ،{ وأنتم تبصرون} أي لم يموه على أبصاركم فسحر عيونكم ، بل أنتم تدركون بكامل بصركم وترون الأشياء والوقائع .
وفي هذا حكم على القرآن بأنه سحر ، لأنه يعمل السحر ، ولم يجدوا طريقا لإدخال إفكهم على الناس إلا بهذا الادعاء الباطل ، وإذا كانوا قد ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم في إسرار نجواهم فالله تعالى يعلم ما تناجوا به ، وما ائتمروا عليه ، ولا يهمه صلى الله عليه وسلم أن يعلم ما يتآمرون عليه من قول ، وما يدبرونه من صد عن سبيل الله ، ولذا قال تعالى:
{ قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم} .