{النُّونِ}: الحوت ،و{وَذَا النُّونِ}: النبي يونس( ع ) .
{نَّقْدِرَ}: نضيق عليه ،من قَدَرَ عليه رزقه: أي ضيّق .
و{وَذَا النُّونِ} وهو يونس بن متى الذي نُسب إلى النون ،وهو الحوت ،لالتقامه إياه ،فأرسله الله إلى مائة ألف أو يزيدون ،فلبث فيهم مدة طويلة ،فتمردوا عليه ،ولم يؤمنوا به فدعا الله عليهم ،وخرج من بينهم ،فتابوا فرفع الله عنهم العذاب ،وهكذا يريد الله أن يحدِّثنا عنه ،{إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً} كما توحي به بعض التفاسير ،من خلال الشعور بخيبة الأمل في ما بذله من جهدٍ كبير لهدايتهم ،وما عاناه من آلام ومشاكل في المدة التي قضاها بينهم .فكان محكوماً بجوّ الداعية الذي يشعر بأنّ مهمته قد انتهت من دون أن ينجح في الوصول إلى نتائج كبيرة .فانفصل عنها في حالة انفعالٍ وغضب إزاء الذين شاركوا في هذا الفشل .
وربما جاء في بعض القصص القرآني ،في ما يذكره الرواة من قصة يونس ،أنه انفعل من رفع العذاب عنهم فذهب مغاضباً ،لأنّ ذلك قد يُسقط موقعه من قومه ،لأن ما وعدهم به من العذاب لم يتحقق ،فكأن المسألة بالنسبة إليه ،انفعال ثأريٌّ للذات .ولكن هذا الرأي لا يتناسب مع العمق الإيمانيّ الذي يتميّز به هذا الرسول الصالح في حركة الدعوة إلى الله ،وفي ابتهالاته الروحية في حالة الشدّة وفي حديث الله عنه بأنه من المؤمنين الذين يستجيب الله لهم ..
{فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} قد يتبادر إلى الذهن أنه انطلق في غضبه من حالة تمرّد في الذات ،وهروبٍ انفعاليٍّ يستغرق فيه الإنسان ،حتى ليخيّل إليه أنه يملك القدرة المطلقة على الذهاب إلى أيّ مكانٍ شاء ،بعيداً عن قدرة الله التي تحيط بكل شيء .وهكذا يبدو لأوّل وهلةٍ ،أنه كان يظن في غفلة من الذات أنه حرٌّ في حركته وفي هروبه ،وبذلك انحرف عن خط العقيدة والإيمان وظلم نفسه .ولكن المراد هنا من كلمة{نَّقْدِرَ} المعنى الذي يلتقي بالتضييق ،أو بالتحديد كما في قوله تعالى:{وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [ الفجر:16] ،وهكذا يكون معنى الآية ،أن هذا العبد الصالح خرج مغاضباً لقومه ،وهو يظن أنه قد ملك حريته ،بعد أن انتهت مهمته ،باستنفاد كل تجاربه في الدعوة إلى الله وعدم تجاوب قومه معه ،واستحقاقهم العذاب على ذلك ،وقرب نزوله عليهم ،فلم يفكر بالمرحلة الجديدة من عمله ،ولم ينتظر عودتهم إلى الإيمان من خلال التجربة الأخيرة التي قد تحقق نتائج كبيرة على هذا الصعيد ،وهي مسألة تهديدهم بالعذاب ،الذي ثبتبعد ذلكأنه كان الصدمة القوية التي أرجعتهم إلى عقولهم ،فانفتحت قلوبهم على الإيمان بالله وبرسالاته من جديد .كما حدثنا الله عن ذلك في آية أخرى ..
لقد كانت لحظة انفعال تختزن الغضب لله ،ولكنها لم تنطلق للتفكير بالمستقبل في آفاق الدعوة إلى الله ،التي تعمل على أن تطلّ على الآفاق الواسعة من عقل الإنسان وروحه وقلبه لتنتظر منه انفتاحة إيمان ،ويقظة روح ،وخفقة قلب ...وفي هذا الجو كان خروجه السريع سرعةً انفعالية في اتخاذ القرار ،وقد لا يكون ذلك تهرّباً من المسؤولية ،وحبّاً للراحة ،وابتعاداً عن أثقال الرسالة ومشاكلها ،فربّما كان الجو يتحرك في حالةٍ شديدة من الحيرة والغمّ والحزن ،مما يريد معه أن يخرج من هذا الجوّ الخانق ليجد لنفسه ملجأً جديداً ،أو موقعاً آخر للدعوة ،أو لأي مشروعٍ جديد في هذا الاتجاه ،وهو يظن أن الله لن يضيق عليه أمره في رزقه وفي حركته .وجاءت النتيجة غير ما كان يتصوره أو ينتظره ،فالتقمه الحوت ،بعد أن وقعت القرعة عليه ،وعاش في ظلمات البحر وجوف الحوت وظلمات الهمّ والغمّ ،وانفتحت أمامه من جديد آفاق إيمانه الواسع ،فعاش روحيته مع الله في ابتهال وخشوع ،وبدأ يتذكر لطف الله به ،ورحمته له ،ورعايته وتكريمه إيّاه من خلال ما اختصه به من رسالته وما سهّل له من سبل الحياة ،وهداه إليه من وسائلها ،وكيف خرج من دون أن يستأذن الله في ذلك ،أو ينتظر ما يحدث لقومه ،فانطلقت صرخته المثقلة بالهم الكبير الروحي والرسالي والذاتي ،من كل أعماقه ،في استغاثة عميقة بالله وحده لا سيما في مثل ظروفه التي لا يملك أحد فيها أن يقدِّم إليه شيئاً .
{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ} فلا ملجأ لأيّ هاربٍ أو ضائعٍ أو حائر إلاّ إليك ،ولا ملاذ إلاّ أنت ،فأنت القادر على كل شيء ،والرحيم لكل مخلوق ،والعليم بكل الخفايا والمهيمن على الأمر كله ،والغافر لكل ذنب ،والمستجيب لكل داع ،والمغيث لكل ملهوف ،والمفرِّج عن كل مهموم ومكروب… وليس لي غيرك أسأله كشف ضري والنظر في أمري ،فأنت ربي وسيدي ومولاي وملاذي في كل الأمور ،{سُبْحَانَكَ} إذ يختزن قلبي وعقلي ووجداني الإحساس بعظمتك في كل مواقع العظمة في مجالات التصور ،وفي حركة القدرة في الواقع ،في مظاهر الخلق والإبداع ..،فيتحول ذلك إلى تسبيحٍ منفتح خاشعٍ مبتهلٍ إلى الله ،{إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فقد ظلمت نفسي في تحركي ،أو تقصيري في سبيل الدعوة ،من غير قصد ،ولا عمد ،وها أنذايا ربراجع إليك بكل قلبي وعقلي وحياتي ،لتتقبلني بكل لطفك ورضوانك ورحمتك ،ولتكشف عني كل أجواء الحيرة والغمّ التي تغمرني بالآلام والمشاكل ،فهل تستجيب لي ؟إنك أنت الذي تستجيب كل الدعوات لمن دعاك .