تكذيب الأنبياء ظاهرة تاريخية
وهذا حديثٌ عن المسيرة الطويلة للنبوّات قديماً التي استخدمت في انطلاقتها الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ،وبالكلمة الطيبة التي تفتح عقول الناس وقلوبهم على الحق ،فواجه المجتمع ذلك بالرفض والتعسف ،أو اللامبالاة والاستهزاء ،ولكنّ الأنبياء لم يتراجعوا ولم يسقطوا ،بل أكملوا المسيرة حتى أتاهم أمر الله ..
وهي قصة الدعوة إلى الله في كل زمان ومكان ،التي تصدم تخلّف المجتمع ،بما يحمله من أفكار ،أو ما يعيشه من أوضاع ،أو يلتزمه من مواقف ،ما يجعل الناس يخافون أيّة فكرةٍ جديدةٍ تسعى إلى التغيير ،لأنهم لا يريدون الخروج من أجواء التخلّف التي ألِفوها حتى تحوّلت إلى جزء من تكوينهم الشخصي ،ولهذا فهم يهربون من الأنبياء والمصلحين بكل الوسائل ،بالامتناع عن الاستماع إلى كلامهم ،أو الرفض للحوار معهم ،أو العمل على اضطهادهم ،أو السخرية منهم ،أو إخراجهم من بينهم ،لأنهم يرون فيهم التحدي لواقعهم ،والهزيمة لمفاهيمهم أو لعاداتهم وتقاليدهم الموروثة من الآباء والأجداد ،وقد يموت الأنبياء والمصلحون بعد ذلك ،ولكن الرسالات تبقى وتنفذ إلى الأعماق بطريقةٍ خفيّةٍ من حيث لا يشعر الناس ،لأن الرفض للفكرة يختزنغالباًوعياً عميقاً لمفرداتها يؤمّن التفاعل معها بهدوء ،لتتحول إلى قناعات فكرية بعد ذلك ،وهذا ما يمنع الدعاة إلى الله من اليأس عندما يواجهون الرفض في الطريق ،لأنهم يرصدون أملاً جديداً للدعوة في المستقبل عندما تسقط الأغشية عن عيون الرافضين تحت تأثير ما ينفذ من مفردات الدعوة إلى منطقة اللاشعور فيهم .
وقد يمتد بالكافرين الزمن ،ولكن الله يتدخل لنصرة رسله ،بوسائل العقاب الدنيويّ الذي ينزله عليهم بعد استكمال الحجّة ،ليفسح المجال لجيل جديد ،لا يحمل النفسية المعقّدة التي يحملها الجيل القديم ..
والله في آياته هذه يتحدث مع رسوله محمد ( ص ) عن كل هذا التاريخ ،ليعيش هذه التجربة الطويلة ،وليعرف أن ما يحدث له الآن ،قد حدث للأنبياء من قبله ،وأن الله سينصره كما نصرهم ،وأن الرسالة لا بد من أن تستمر حتى تفتح قلوب الناس على الله ،وحياتهم على الحق .
إن يكذّبوك فقد كذبوا من قبلك
{وَإِن يُكَذِّبُوكَ} يا محمد ،في ما يواجهك به قومك من أساليب الرفض المتنوعة للرسالة ،{فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ *وَقَوْمُ إِبْراَهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ* وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى} ولم يتراجع كل أولئك الأنبياء ،بل تابعوا الدعوة وأكملوا المسيرة حتى تمكّنوا من تأكيد رسالتهم وفرضها .{فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} وتركت لهم مجال الامتداد في كفرهم ليستكملوا كل التجربة ،وليأخذوا وقتهم بحيث تقوم الحجة عليهم ،ولا يكون للناس على الله حجة على هذا المستوى ،لجهة الفرصة التي يملكونها ،أو المدة التي يأخذونها ،ولكن الله يمهل ولا يهمل ،{ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} بالعذاب بكل قوّةٍ ،{فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} في ما يمثّله من الإنكار البالغ في شكله وطبيعته ،ومن الأخذ الشديد .