{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الاَْرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ} لأن العقل يتغذى من الملاحظات الدقيقة التي تكوّنها آثار التجارب التي عاشها الآخرون ،وممّا يمكن أن يستخلصه منها من نتيجة حاسمة على صعيد حركة الإيمان بالله في الحياة ،فإن الله خلق للإنسان العقل ليحركه في دراسة الأشياء واستنتاج الأفكار منها ،لا ليجمّده في أجواء الغفلة ،أو في ما يرضي الذات ..{أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} في ما يستمعون إليه من آيات الله التي يتلوها عليهم الأنبياء ،أو من المواعظ البليغة التي يقدّمها الوعّاظ مما ينفعهم ولا يضرّهم ،أو من النصائح التي يقدمها إليهم الناصحون مما يعود عليهم بالخير في الدنيا والآخرة ،فإن الله قد خلق للناس الاذان لتكون النوافذ التي تطل على القلوب ،فتعطيها كل ما فكر به الآخرون أو أثاروه في حديثهم ،لتكون بذلك انطلاقة في الوعي ،وحركة في الفكر ،ووضوحاً في الرؤية للأشياء ...
ولكن مشكلة هؤلاء أنهم يعيشون العمى في حياتهم ،فيتخبطون في أفكارهم ومواقفهم ،ويفقدون الرؤية الواضحة للأشياء ،وليس هذا العمى ناشئاً من فقدان النور في عيونهم ،فهم يملكون عيوناً حادّة البصر ،ولكنه عمى القلب الذي يغلق فيه الإنسان بجهله وعناده كل نوافذ المعرفة التي تطل به على الله ..وذلك هو العمى كل العمى ،لأن عمى البصر لا يُسقط الإنسان تماماً ،ولا يمنعه من التعرف على ما حوله من الأشياء ،كونه يستطيع تحسسها بيده ،أو بعصاه ،أو بالاستعانة بالآخرين ،أمَّا عمى القلب ،فإنه يمنعه من تحديد الموقف أمام كل القضايا المطروحة التي تتصل بالمصير ،ما يجعل من الإنسان لعبةً للرياح التي تعصف بالواقع ،أو خشبةً تتقاذفها الأمواج ،فلا يملك معها أن يحدد طريقه في اتجاه النجاة ..ولهذا جاءت الآية لتؤكد هذه الحقيقة:{فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاَْبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} .
وهذه اللفتة القرآنية التي تؤكد قيمة العقل الكبيرةالذي يعبر عنه القرآن بالقلبفي حياة الإنسان التي تدفعه إلى أن يعقل ويهتدي به ،فلا يجمّده ويستسلم إلى رواسبه المتخلفة ليشدّه ذلك إلى عمق الهاوية في المصير .إن هذه اللفتة توحي بأن للعقل مركزاً حيوياً في معرفة الإسلام ،باعتباره القوّة الحقيقية التي تخطّط للحياة من موقع الثبات والتوازن والعمق والانفتاح ..وأن المجتمع العاقل هو المجتمع الذي ينفتح على الإيمان بالله من أقرب طريق ،ويتحرك في الحياة من موقع المسؤولية .من هنا ،كانت الفكرة التي تقول إن المجتمع الجاهل هو مجتمع الإيمان فكرة خاطئة لا أساس لها ،وإن هذه اللفتة القرآنية في تأكيدها على دور العقل ،تفرض على القائمين على شؤون الإسلام في الدعوة والواقع العمل على التخطيط لحركةٍ عقليةٍ نشيطةٍ داخل الشخصية الإسلامية ،ليستطيع المجتمع الإسلامي أن ينمو ويتطوّر من مواقع العقل الذي يحقق له استقلال الإرادة في التفكير ،وفي اتخاذ القرار المتوازن ،كما يحقق له القوّة في مجالات الصراع الفكري بين الإسلام وخصومه الفكريين ،وفي مواجهة التحديات القادمة من مواقع المستكبرين في الأرض ،لأنهم إذا لم يتوفروا على ذلك ،بالرغم من السلبيات الناتجة عنه ،فسوف يسقط المجتمع في وحول التخلف ،ولا يستطيع معه المحافظة على مواقعه ،فضلاً عن التقدم إلى الأمام لاحتلال مواقع جديدة ،لأن التخلف لا يمكن أن يثبِّت موقعاً ،ولا يستطيع أن يربح أيّ موقع .