لماذا يؤكد القرآن على أن مشكلة الكفر ،تتلخص في الغفلة من جهةٍ ،واتّباع الهوى من جهةٍ أخرى ؟
إنّ هذه الآيات هي الجواب عن ذلك ،لأن ربوبية الله للعالم ،ووحدانيته في ذلك ،ليست من الأمور التي يحتاج الوصول إليها إلى الكثير من الجهد الفكري ،بل كلّ ما تحتاجه وجدانٌ صافٍ ،وفطرة نقية ينفتح بها الإنسان على وجوده من الداخل أو على الأشياء التي تحيط به من فوقه أو من تحته أو من حوله ،فإن ذلكوحدهكفيلٌ بأن يقود الإنسان إلى الإيمان بالله بطريقة فطريةٍ عفويّة لا تعقيد فيها ،فهي لا تحوجه إلى البحث عن إجابات صعبة على إشكالات فكرية معقّدة .
{وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاَْبْصَارَ وَالاَْفْئِدَةَ} فكروا في أنفسكم ،في الجسد الذي تتحركون به ،ألا ترون أن لكم أسماعاً تلتقطون فيها أصوات الموجودات المحيطة بكم ،وأن لكم أبصاراً تشاهدون فيها كل المناظر التي تحيط بكم ،وأن لكم عقولاً تطوف بكل مفردات المعرفة التي تمتلئ بها حياتكم الباحثة أبداً عن الفكر والحق والإبداع ؟هل هناك معنى للحياة دون هذه الطاقات التي تتعاون في الوصول إلى هدى الوعي الذي يحرّك حياة الإنسان في الاتجاه السليم ؟فبالبصر والسمع يلتقط الكائن الحيّ كل المسموعات والمبصرات وكل ما يتحسسه الإنسان من خلال تجربته الذاتية ،بشكل مباشر أو غير مباشر ،عبر ما ينقل إليه من تجارب الآخرين .وبالعقل ينظم كل التجارب الحسية التي يعيشها ويحولها إلى نظم عقلية وملاحظات ،ما يفتح للإنسان كثيراً من أبواب الخير والهدى والنجاة .
فهل تتصورون الحياة دون سمعٍ ؟وكيف تستطيعون التعويض في المعرفة عمّا ينقله إليكم السمع ؟وكيف يكون الوجود الإنساني أعمى بحيث يفقد كل تجارب البصر التي تهديه إلى مواقع المعرفة ومنابع النور ؟وما قيمة السمع والبصر وكل الحواس الأخرى في جسد الإنسان ،إذا لم يكن هناك عقل ينظّم لها كيف تواجه الحياة من موقع النور والقوّة والاستقامة ؟
إنها النعم التي ترتفع بالإنسان ،عندما تجتمع له ،إلى الآفاق التي تربطه بالقضايا الكبرى ،وكليات الحقائق ،وقوانين الوجود ،وقواعد المعرفة ،وتقوده من خلال عمق العلم ورحابته إلى أن يكون القوّة التي تقود الحياة وتوجّهها في الاتجاه الصحيح ،فهل تشكرونها ،وهل تعرفون أن الشكر في هذا المجال ليس كلمةً تقولونها ،وليس التفاتة عرفان بالجميل تتمثلونها أو تعبرون عنها بابتسامةٍ ،أو انحناءةٍ ،أو هديةٍ أو ما إلى ذلك ،مما اعتاد الناس أن يعبروا به عن شكرهم للجميل ؟!بل هو حالة وجدانية تهزّ الكيان اعترافاً بالخضوع العميق للخالق الذي أبدع وأعطى ودبّر ،وموقف طاعة دقيقة شاملة لكل أوامره ونواهيه ،تعبيراً عن خضوع المخلوق للخالق في وعيه لسرّ العبودية في ذاته للإِله الذي خلقه ،إنه شكر الوجود الإنساني الحيّ المتحرك بالموقف لخالق الوجود ..ولكن ما تعيشونه خلاف ذلك ..فأنتم{قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} فليس هناك إلا القليل القليل من الشكر الذي لا يعبر عن الإحساس بالنعمة .