بعد ذلك بين سبحانه إنشاءه للإنسان ، وإنه أنشأ له حواسه التي بها يحس ، وعقله الذي به يدرك ، ولكنه كفر بهذه النعم ، فقال تعالى:
{ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ( 78 )} .
بين الله سبحانه وتعالى أنه منحهم أسباب الإدراك ، ولم يدركوا ، ولم يشكروا الله تعالى على ما أنعم ، فهو سبحانه وتعالى أنشأ لكم السمع لتسمعوا الخير وتدركوه ، ولتسمعوا آيات الله تعالى في الرعد ، فترهبوه ، ولتسمعوا النذر فتتقوا ، ولتسمعوا المبشرات فترجوه . والأبصار:وهي جمع بصر ، لتبصروا الكون وما فيه ، فتبصروا الشمس والقمر ، والنجوم في أبراجها ، والماء ينزل فينبت الزرع ، وتكون الأرض ذات منظر بهيج ، وجمع الأبصار ، ولم يأت بها مفردة كالسمع لتعدد المبصرات وتغايرها وتكاثرها ، وفي كل مبصر منها آية تدل على وحدانية الله وقدرته ، وكل مبصر له حيز وشكل وصور مختلفة ، ولبيان أن في المبصرات مناظر مختلفة تسوغ تعدد البصر لأجلها .
والأفئدة جمع فؤاد ، وهو القلب ، والعرب كانت تجعل موضع الإدراك والتفكير القلب ، وأنه عند التحقيق أوسع إدراكا من العقل ؛ لأن القلب يشعر ويحس ويتصور ، وفي الشعور علم ، والعقل يدرك ويتصور ويربط الأسباب بالنتائج ، ويقيس بين الأشياء ، وجمع الأفئدة ، لتعدد المدركات ، وسموها أو انحدارها .
وإن هذه الحواس والمدارك هي التي بها علا الإنسان ، وقال تعالى:{ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ}{ ما} دالة على تأكد ما قبلها أي قليلا أي قلة{ مَّا تَشْكُرُونَ} فلا تقومون بحق هذه النعم كما قال تعالى:{ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ( 36 )} [ الإسراء] ، وقال تعالى:{ فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء . . . ( 26 )} [ الأحقاف] إذ كانوا يجحدون بآيات الله تعالى ، وإن أول شكر للنعمة الإقرار بفضل من أنعم ، وألا يسوى بغيره مما لا يضر ولا ينفع ، وليس له سمع ولا بصر ولا فؤاد ، بل هي أحجار لا حياة فيها .