{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرْضِ} بما كان يعيشه في ذاته من عقدة الاستعلاء والاستكبار على الناس ،من خلال الامتيازات العائلية التي كان يملكها ،والأموال التي كان يحويها ،والجماعات التي كانت تحيط به وتتزلف إليه ،وتقدم له الطاعة والولاء ،ما جعله يشعر بنفسه كربٍّ أعلى لهم ،لأنه لم يجد صوتاً يرتفع في مواجهته ليقول له: «قف مكانك ،ولا تتعدَّ حدودك ،واخشع لربك الذي خلقك وأنعم عليك » ،فامتد في طغيانه ،وابتعد عن الخط المستقيم{وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} ففرّق كلمتهم ،ومزّق وحدتهم ،وأثار النزاع والخلاف بينهم على مستوى علاقات الأفراد ،من خلال المصالح والأطماع الذاتية ،وعلى مستوى علاقات الجماعات ،عبر الأوضاع العائلية والامتيازات الطبقية وغير ذلك ،ما يجعل المجتمع مستغرقاً في مشاكله وخلافاته ،مشدوداً إلى الآفاق الصغيرة التي تحيط به ،مبتعداً عن قضايا المصير المتمثلة بالإنسانية والحرية والعدالة ..،خاضعاً للقوّة المستعلية المستكبرة التي يعمل على الخضوع لها ،لتتدخل في شؤونه ،ولتتحكم في حياته .وهذا هو أسلوب الطغاة في كل زمان ومكان في إحكام سيطرتهم على الشعوب ،بالعمل على إثارة الانقسامات والخلافات بين أفراد الشعب ،لينشغلوا بمشاكلهم الذاتية عن التفكير في مواجهة الطغاة في مخططاتهم العدوانية .وهكذا كان أسلوب فرعون في هذا الجانب من خططه ،حيث اختار قسماً من الناس ليكون فريقاً له ،واختار فريقاً آخر ليكونوا ساحة لتجربة ظلمه وتنفيس عقدته{يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ} وهم بنو إسرائيل الذين كانوا في عداد الأسرى الأرقّاء الذين يستخدمهم في جميع حاجاته ،ليكونوا اليد العاملة المجانية التي توفر له كل ما يريد من دون خسارة ،وكان{يُذَبِّحُ أَبْنَآءهمْ وَيَسْتَحييِ نِسَاءهم} لاستخدامهن في شؤونه وشؤون طبقته الاجتماعية .
وقد نقل البعض في سبب ذلك ،أن لهم عقيدةً غير عقيدته ،فهم يدينون بدين جدهم إبراهيم ويعقوب ،ومهما وقع في عقيدتهم من الانحراف ،فقد بقي لها أصل الاعتقاد بإله واحد .وناقش بعضٌ في ذلك معتبراً أن بني إسرائيل لم يكونوا في الخط الإبراهيمي التوحيدي ،ولهذا قالوا لموسى( ع ) بعد خروجهم من البحر عندما وجدوا قوماً يعكفون على أصنام لهم ،{اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [ الأعراف: 138] ،وذكر الشيخ المراغي في تفسيره: «أن فرعون إنما اضطهد بني إسرائيل لأنه كان يتوجس خيفة من الذكران الذين يتمرسون الصناعات وبأيديهم زمام المال ،فإذا طال بهم الأمد استولوا على المرافق العامة ،وغلّبوا عليها المصريين ،والغلب الاقتصادي أشد وقعاً من الغلب الاستعماري » .
وذكر بعضهم: «إن كاهناً قال لفرعون: إن مولوداً يولد في بني إسرائيل يكون سبب ذهاب ملكه » .وهناك قائل: إن الأنبياء الذين كانوا قبل موسى بشروا بمجيئه ،ولما علم فرعون بذلك خاف وذبح أبناء إسرائيل .
ولعل الرأي الأخير هو الأقرب إلى الذهن ،لأن فرعون لم يكن في موقع الدفاع عن العقيدة ،ولهذا لم نجد موقفه من موسى دفاعاً عن عقيدته ،بل كان دفاعاً عن ملكه ،كما أن الوضع الاقتصادي لم يكن خاضعاً للنظام الذي يمكن أن تتسلط فيه الطبقة الدنيا على الطبقة العليا ،لوجود ضوابط متنوّعة ،من ذهنية العبودية المسيطرة على الفئات الكادحة ،ومن طبيعة المواقع الاقتصادية لحركة الثروة ،ومن حالة التخلف المهيمنة على الواقع كله .ونحن نعرف أن المجتمع الإسرائيلي آنذاك لم يكن منطلقاً من حالة ثورةٍ أو تمرّد ،ولم يكن منفتحاً على حالة طموح في اكتساب المواقع المتقدمة في السلطة أو في الدائرة الاقتصادية ،بل كان هناك نوع من الاستسلام الخاضع للحكم الفرعوني ولطبقته الاجتماعية ،ما يجعل الأقرب إلى التصور أن يكون هناك منامٌ رآه فرعون ،أو كهانة ،أو حديث نبويٌ سابق ،بحيث ولّد خوفاً لدى فرعون ،استباح به قتل الذكور من الأطفال وإبقاء الإناث ،والله العالم .
{إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} الذين يتحركون في الحياة لخدمة ذواتهم على أساسٍ من إفساد حياة البلاد والعباد في العقيدة والحكم والشريعة ،وفي حركة العلاقات العامة والخاصة .