كان ذلك في الحقيقة بياناً إجمالياً ،ثمّ يفصّل القرآن ما أجمله بقوله: ( إن فرعون علا في الأرض ) .
فقد كان عبداً ضعيفاً ،وعلى أثر جهله وعدم معرفته أضاع شخصيته ووصل إلى مرحلة من الطغيان حتى أنّه ادّعى الرّبوبية ..والتعبير ب«الأرض » إشارة إلى أرض مصر وما حولها ..وحيث أن القسم المهم العامر من الأرض في ذلك العصر كان «مصراً » فقد جاء التعبير بالأرض بصورة مطلقة .
ويحتمل أيضاً أنّ الألف واللام للعهد أي «أرض مصر » .
وعلى كل حال فإنّ فرعونمن أجل تقوية قواعده الإستكباريةقد أقدم على عدّة جرائم كبرى !..
فالجريمة الأولى ،أنّه فرّق بين أهل مصر ( وجعل أهلها شيعاً ) وهي سياسة معروفة ومتبعة على امتداد التاريخ ،وعليها يستند المستكبرون في حكمهم ،فلا يمكن أن تحكم الأقليةالتي لا تُعدّ شيئاًعلى الأكثرية إلاّ بالخطة المعروفة «فرّق تَسُدْ » فهم مستوحشون من «كلمة التوحيد » و «توحيد الكلمة » ويخافون منهما أبداً.
ويخافون من التفاف الناس بعضهم حول بعض ،ولذلك يلجأون إلى الطبقية في الحكم ،فهذه الطريقة وحدها تتكفل بقاءهم في الحكم ،كما صنعه فرعون في أهل مصر ،ويصنعه الفراعنة في كل عصر ومصر .
أجل ،إنّ فرعون قسّم أهل مصر إلى طائفتي «الأقباط » و«الأسباط » .
فالأقباط هم أهل مصر «الأصليون » الذين كانوا يتمتعون بجميع وسائل الرفاه والراحة ،وكانت في أيديهم القصور ودوائر الدولة والحكومة .
و«الأسباط » هم المهاجرون إلى مصر من بني إسرائيل الذين كانوا على هيئة العبيد والخدم «في قبضة الأقباط » !وكانوا محاطين بالفقر والحرمان ،ويحملون أشدّ الأعباء دون أن ينالوا من وراء ذلك نفعاً [ والتعبير بالأهل في شأن الطائفتين الأقباط والأسباط هو لأنّ بني إسرائيل كانوا قد سكنوا مصر مدّة طويلة فكانوا يُعدّون من أهلها حقيقة !] .
وحين نسمع أن بعض الفراعنة يستعمل مائة ألف مملوك من العبيد لتشييد مقبرة خلال عشرين سنة ( كما هي الحال بالنسبة إلى هرم خوفو المعروف الكائن بمقربة من القاهرة عاصمة مصر ) ويموت في سبيل ذلك آلاف العبيد والمماليك على أثر الضرب بالأسواط وتحت ضغط العمل الشاق ،ندرك جيداً الحالة الإرهابية السائدة في ذلك المجتمع ...
والجريمة الثّانية هي استضعافه لجماعة من أهل مصر بشكل دموي سافر كما يعبر عن ذلك القرآن بقوله:( يستضعف طائفةً منهم يذبح أبناءهم ويستحى نساءهم ) .
فقد كان أصدر أمراً بأن يراقبوا الأطفال الذين يولدون من بني إسرائيل ،فإن كانوا ذكوراً فإنّ حظهم الذبح ،وإن كانوا إناثاً فيتركن للخدمة في المستقبل في بيوت الأقباط .
وترى ماذا كان يهدف فرعون من وراء عمله هذا ؟!
المعروف أنّه رأى في منامه أن شعلة من النّار توهجت من بيت المقدس وأحرقت جميع بيوت مصر ،ولم تترك بيتاً لأحد من الأقباط إلاّ أحرقته ،ولكنّها لم تمسّ بيوت بني إسرائيل بسوء ،فسأل الكهنة والمعبرين للرؤيا عن تأويل ذلك ،فقالوا له: يخرج رجل من بيت المقدس يكون على يديه هلاكك وزوال حكومة الفراعنة{[3032]} .
وأخيراً كان هذا الأمر سبباً في عزم فرعون على قتل الرضّع من الأطفال الذكور من بني إسرائيل{[3033]} .
كما يحتملأيضاًأنّ الأنبياء السابقين بشّروا بظهور موسى( عليه السلام )وخصائصه ،وقد أحزن الفراعنة خبره ،فلمّا اطّلعوا على هذا الأمر أقدموا على التصدي له{[3034]} .
ولكون ورود جملة ( يذبح أبناءهم ) بعد جملة ( يستضعف طائفة منهم ) فإنّ مسألة أُخرى تتجلّى أمامنا ،وهي أنّ الفراعنة اتّخذوا خطة لاستضعاف بني إسرائيل بذبح الأبناء ،لئلا يستطيع بنوا إسرائيل أن يواجهوا الفراعنة ويحاربوهم ،وكانوا يتركون النساء اللاتي لا طاقة لهن على القتال والحرب ،ليكبرن ثمّ يخدمن في بيوتهم .
والشاهد الآخر هو الآية ( 25 ) في سوره المؤمن ،إذ يستفاد منهابصورة جيدةأن خطة قتل الأبناء واستحياء النساء كانت موجودة حتى بعد ظهور موسى( عليه السلام ) [ ومجيئه إلى الفراعنة] .إذ تقول: ( فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلاّ في ضلال ) .
وجملة ( يستحي نساءهم ) يظهر منها أنّهم كانوا يصرّون على إبقاء البنات والنساء ،إمّا لكي يخدمن في بيوت الأقباط ،أو للإستمتاع الجنسي ،أو لكلا الأمرين جميعاً .
وفي آخر جملة تأتي الآية بتعبير جامع ،وفيه بيان العلة أيضاً فتقول: ( إنّه كان من المفسدين ) .
وباختصار فإنّ عمل فرعون يتلخص في الفساد في الأرض ،فاستعلاؤه كان فساداً ،وإيجاد الحياة الطبقية في مصر فساد آخر ،وتعذيب بني إسرائيل واستضعافهم وذبح أبنائهم واستحياء نسائهم ليخدمن في بيوت الأقباط فساد ثالث ،وسوى هذه المفاسد كانت لديه مفاسد كثيرةً أُخرى أيضاً .
والتعبير ب «يُذبح» المشتق من مادة «المذبح » تدل على معاملة الفراعنة لبني إسرائيل كمعاملة القصابين للأغنام والأنعام الأخرى ،إذ كانوا يذبحون هؤلاء الناس الأبرياء ويحتزون رؤوسهم !{[3035]} .
وفي هذه الخطة الإجرامية من قبل الفراعنة ضد الحوامل قصص مذكورة ،إذ قال بعضهم: إنّ فرعون كان قد أمر برقابة مشددة على النساء الحوامل من بني إسرائيل ،وأن لا يلي إيلادهن إلاّ قابلة من القبطيّات والفرعونيّات ،فإذا كان المولود ذكراً فإنّ جلاوزة القصر الفرعوني يأتون ليتسلموا «قربانهم »{[3036]} .
ولا يعرف بدقّة كم بلغ عدد «ضحايا الحوامل » من أطفال بني إسرائيل على أثر هذه الخطة الإجرامية ؟قال بعضهم: كان الضحايا من الأطفال المواليد تسعين ألفاً ،وأوصلها بعضهم إلى مئات الآلاف !..
لقد كانوا يظنون أنّهم سيقفون بوجه إرادة الله الحتمية بهذه الجرائم الوحشية ،فلا ينهض بنو إسرائيل ضدهم ولا يزول سلطانهم .
/خ6