{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} من المشركين الذين كانوا يمارسون الضغوط على المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم ،ومن الضالين الذين يتحركون في طريق الله ،في ما يخيَّل إليهم من قوّة الموقع ،وعمق الحيلة ،وبما يدبرونه من مكائد في مواجهة الإسلام والمسلمين{أَن يَسْبِقُونَا} في ما يمثله السبق من الغلبة ،على أساس ما يحققونه من نجاحٍ في إضلال المؤمنين ،وما يثيرونه من غبار في وجه الدعوة إلى الله ،مما يوحي لهم بالانتصار على الله وعلى رسله ،عندما تتقدم مواقعهم في الشرك على مواقع الإيمان .
{سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} فهذه النظرة لا تنطلق من عمق الدقّة في الحكم على الأشياء ،لأن الله قد يسهّل للكافرين بعض الوسائل ،ويهيىء بعض الظروف ،للوصول إلى بعض غاياتهم ،في فترةٍ معينةٍ ،ولكن المسألة لن تأخذ الكثير من ذلك في امتداد الزمن ،لأن الله يريد للصراع أن يأخذ مداه ،في ما أودعه الله للحياة من السنن الاجتماعية ،في ما تخضع له حياة الناس من سننٍ في دائرة النظام الشامل للكون .ثم تنطلق الدعوة للإيمان من مواقع الصراع قويّةً صلبةً في أجواء المعاناة ،بعد أن تكون قد اكتسبت الكثير من خصائص النجاح وعناصر القوّة ،وفتحت أكثر من ثغرة في جدار الكفر ،ليسقط الكفر على أساس تحطيمه في النفوس في دائرة الصراع ،قبل تحطيمه في ساحة الواقع .
إن الكثيرين من الناس قد يتخيلون أن مسألة التقدم والتأخر في حركة الرسالات والمبادىء الأخرى ،تمثل الانطلاقة الأولى في الحركة ،ما يجعل هؤلاء أو بعضهم يسقطون أمام أيّة انتكاسةٍ للإيمان على يدي قوى الكفر ،أو أيّة هزيمةٍ للمسلمين تحت ضغط الكافرين ،ويفكرون أن الله قد خذلهم في ما يريدون ،وما يؤمنون به .ولكن هؤلاء يخطئون في ذلك ،فإن الله لا يريد لدينه أن ينطلق في الساحة العامة للحياة ،من قاعدة المعجزة التي تختصر كل الأسباب التي ترتبط بها النتائج في المواقع ،بل يريد له أن يبدأ في حركته في نطاق عملية النموّ الطبيعيّ الذي تتكامل به الموجودات في وجودها التكويني أو العملي ، لأن ذلك هو السبيل الذي يعمّق الفكرة في العقول والقلوب ،ويصنع للإنسان تجاربه المتنوعة في مواجهة التحديات ،ويحقّق له القوّة في وجوده .فإن الصراع كلما اشتد في ضغطه ،كانت النتائج الإيجابية لمصلحة الإيمان ،والنتائج السلبية ضد الكفر ،أكثر تأثيراً ،في ما يعنيه ذلك من أن الله يريد للإنسان أن يحقّق إرادة الله باختياره ،بحيث يعطي الرسالة شيئاً من فكره وجهده في ما يؤمن ،وفي ما يحقق للآخرين من فرص الإيمان .
ولهذا ،فإن الله قد يمهل الإنسان في غيّه وكفره ،ولكنه لا يهمله ،بل يهيىء لعباده الصالحين أكثر من فرصةٍ داخليةٍ وخارجيةٍ للانتصار على الكافرين ولو بعد حين ..
ثم قد تحقق المسألة لهؤلاء في بعض المواقع انتصاراً في الدنيا ،ولكن ماذا بعد الموت ،فهل يسبقون إرادة الله في ذلك ؟ومن الذي يحميهم من الله ؟ولكن ،كيف يفكر هؤلاء ،وبماذا يحكمون ،هل ينطلقون من قاعدة ،أو يتحركون من فراغ ؟ساء ما يحكمون .
هوية الذين يعملون السيئات
وقد اختلف المفسرون في تحديد هوية هؤلاء الذين يعملون السيّئات ،فقيل: إنهم المشركون الذين كانوا يفتنون عن دينهم ،وقيل: إنهم المؤمنون العصاة في ما يقترفونه من عصيان أمر الله ونهيه في تفاصيل الحياة .وقيل: إن المراد بعمل السيئات أعم من الشرك وعمل المعاصي ،ما يجعل الآية عامّة لكل من يمارس السيئة على مستوى العقيدة وعلى مستوى العمل .
وقد اختار صاحب الميزان الوجه الأول ،ورفض الوجهين الأخيرين على أساس مخالفة السياق الذي انطلقت فيه بداية السورة في الحديث عن الفتنة في نطاق مسألة الإيمان والكفر ،ما يجعل الآية في دائرة المشركين الذين كانوا يتحركون في اتجاه إيجاد أجواء الفتنة للمؤمنين ،في ما يقدمونه من إغراءات ،وما يثيرونه من ضغوط ،وما يحركونه من أوضاع .ثم استدرك بعد ذلك ،أن الآية لو كانت مستقلةً في نزولها ،بعيداً عن السياق ،لكان مقتضاها العموم ،لأنه لا موجب لتخصيصها بخصوص الشرك ،أو بخصوص سائر المعاصي دون الشرك[ 1] .
ونحن نلاحظ على ذلك ،أن بداية السورة لم تقتصر على الفتنة في العقيدة ولكنها قد تشمل الفتنة في العمل ،في ما يرتبط به الإيمان في صدقه وكذبه ،بالعمل على أساس الشريعة التي يفرضها الإيمان في الانسجام معها ،والابتعاد عنها ،ما يجعل العموم هو طبيعة هذه الآية ،كما هو طبيعة ما قبلها .