مناسبة النزول:
اختلف في سبب نزولها ،«فروي عن أنس بن مالك ،وابن عباس ،والحسن ،وقتادة ،والربيع ،أنَّه لما كان من المشركين يوم أحد ما كان من كسر رباعيّة الرَّسول ( ص ) وشجّه حتّى جرت الدماء على وجهه قال: كيف يفلح قوم نالوا هذا من نبيّهم ( ص ) وهو مع ذلك حريص على دعائهم إلى ربّهم ؟فأعلمه اللّه أنَّه ليس إليه فلاحهم ،وأنَّه ليس إليه إلاَّ أن يبلغ الرسالة ويُجاهد حتّى يظهر الدّين ،وإنَّما ذلك إلى اللّه تعالى .
وكان الذي كسر رباعيته وشجّه في وجهه عتبة بن أبي وقاص ،فدعا عليه بأن لا يحول عليه الحول حتّى يموت كافراً ،فمات كافراً قبل أن يحول الحول ،وأدمى وجهه رجل من هذيل يُقال له عبد اللّه بن قمية ،فدعا عليه ،فكان حتفه أن سلّط اللّه عليه تيساً فنطحه حتّى قتله ،وروي أنَّه كان يمسح الدم على وجهه ويقول: اللّهمَّ اهدِ قومي فإنَّهم لا يعلمون ،فعلى هذا يمكن أن يكون على وجل من عنادهم وإصرارهم على الكفر ،فأخبره تعالى أنَّه ليس إلاَّ ما أمر به من تبليغ الرسالة ودعوتهم إلى الهدى ،وذلك مثل قوله تعالى: [ لعلَّك باخعٌ نفسك ألا يكونوا مؤمنين] ( الشعراء:3 ) .
وقيل: إنَّه استأذن ربّه في يوم أحد في الدُّعاء عليهم ،فنزلت الآية ،فلم يدع عليهم بعذاب الاستئصال ،وإنَّما لم يؤذن له فيه لما كان في المعلوم من توبة بعض عن أبي علي الجبائي .وقيل: أراد رسول اللّه ( ص ) أن يدعو على المنهزمين عنه من أصحابه يوم أحد ،فنهاه اللّه عن ذلك وتاب عليهم ،عن عبد اللّه بن مسعود .وقيل: لما رأى رسول اللّه( ص ) والمسلمون ما فُعلَ بأصحابه وبعمّه حمزة من المثلة ،من جدع الأنوف والآذان وقطع المذاكير ،قالوا: لئن أدالنا اللّه منهم لنفعلن بهم مثل ما فعلوا بنا ولنمثّلن بهم مثلةً لم يمثّلها أحد من العرب بأحد قطّ ،فنزلت الآية ،عن محمَّد بن إسحاق والشعبي .
وقيل: نزلت في أهل بئر معونة ،وهم سبعون رجلاً من قرّاء أصحاب رسول اللّه ( ص ) وأميرهم المنذر بن عمرو ،بعثهم رسول اللّه ( ص ) إلى بئر معونة في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أُحُد ليُعلِّموا النَّاس القرآن والعلم ،فقتلهم جميعاً عامر بن الطفيل ،وكان فيهم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر ،فوجد رسول اللّه ( ص ) من ذلك وجداً شديداً ،وقنت عليهم شهراً ،فنزل: [ ليس لك من الأمر شيء] ،عن مقاتل » .
والظاهركما جاء في مجمع البيان«قال: والأصح أنَّها نزلت في أحد ،لأنَّ أكثر العلماء عليه ويقتضيه سياق الكلام ،وإنَّما قال: [ ليس لك من الأمر شيء] مع أنَّ له ( ص ) أن يدعوهم إلى اللّه ويؤدّي إليهم بتبليغهم ،لأنَّ معناه: ليس لك من أمر عقابهم واستئصالهم أو الدعاء عليهم أو لعنهم حتّى تقع إنابتهم ،فجاء الكلام على الإيجاز ،لأنَّ المعنى مفهوم لدلالة الكلام عليه » .
وقد نلاحظ على هذه الرِّوايات الواردة في أسباب النزول أنَّها كانت اجتهادات تفسيرية من أصحابها ،فقد ركزت في أكثرها على مسألة دعاء الرَّسول ( ص ) على الأعداء في معركة أحد ولعنهم ،أو على التمثيل بهم في جولة أخرى ،بينما نجد الآيتين في مقام بيان حقيقة إيمانيةٍ كلية ،في سنة اللّه في الكافرين الظالمين ،وفي قدرته الشاملة التي تجعل له السلطة الكاملة عليهم في المغفرة أو العذاب ،للتأكيد على أنَّ النبيّ ( ص )في ذاته وفي دورهلا يملك من الأمر في ذلك شيئاً ،لأنَّ الأشياء في نتائجها الحاسمة تنطلق من إرادة اللّه ،فلا دور للأنبياء إلاَّ تهيئة الأجواء الملائمة للهداية أو المتحرّكة في مواقع التحدّي من أجل تنفيذ أوامر اللّه في الأخذ بالوسائل التي يملكونها ،مما أعطاهم اللّه القدرة فيه ،لأنَّ النتائج مربوطة بالحركة العامّة للأوضاع والوسائل التي قد يملك النَّاس بعض القدرة على تحريكها بإرادة اللّه ،ولكنَّهم لا يملكون كلّ شيء فيها من الداخل والخارج ،واللّه العالم .
[ ليس لك من الأمر شيء] في مصير هؤلاء النَّاس الذين حاربوك ،لتحدّدأنتذلك بطريقتك الخاصّة ،لأنَّ اللّه لم يجعل للأنبياء ذلك إلاَّ في دائرة خاصّة من خلال وسيلة الدُّعاء تارةً والشفاعة أخرى ،فهما يتحرّكان من خلال ما حدّده اللّه من منهجٍ ومواقع ،فليس لك أن تشفع إلاَّ لمن ارتضى أو تدعو إلاَّ لمن يريد اللّه لك أن تدعو له ،ويبقى الأمر للّه أن يعذبهم إن شاء أو يتوب عليهم ويغفر لهم إذا أراد ،[ أو يتوب عليهم أو يعذِّبهم] انطلاقاً من حكمته العميقة الشاملة في العذاب والمغفرة اللذين لا ينطلقان من حالة طارئةٍ أو الخضوع لضغط معيّن كما هو عند النَّاس ،بل ينطلقان من السنّة الإلهية من موقع الحكمة في ذلك كلّه ،فله أن يغفر لهم ويتوب عليهم وله أن يعذّبهم ،[ فإنَّهم ظالمون] يستحقون العذاب ،كما يمكن أن تنالهم المغفرة عند توفر عناصرهم فيهم من خلال إنابتهم إلى اللّه وعودتهم إليه .