/م121
{ ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} جملة"ليس لك من الأمر شيء "معترضة بين هذا التقسيم ، وما بعدها معطوف على ما قبلها .ولما كانت هذه الآية مما نزل في وقعة أحد كما روي في الصحيح تعين أن تكون التي قبلها كذلك وإلا كانت غير مفهومة إلا بتكلف ينزه القرآن عن مثله على كونه لا حاجة إليه .
أما كونها نزلت في شأن وقعة أحد فيدل عليه وما ورد في سبب نزولها .روى أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: "اللهم العن أبا سفيان اللهم العن الحارث بن هشام اللهم العن سهيل بن عمرو اللهم العن صفوان بن أمية "{[351]} فنزلت هذه الآية فتيب عليهم كلهم .وروى البخاري عن أبي هريرة نحوه .وروى أحمد ومسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج في وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال: "كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم "؟ فأنزل الله:{ ليس لك من الأمر شيء}{[352]} .ذكر ذلك كله السيوطي في لباب النقول ولم يعز الأول إلى الترمذي والنسائي اكتفاء بمن هو أصح منهما رواية .وقد روى ذلك ابن جرير من عدة طرق .وما روي غير ذلك لا يعتد به .ولا تنافي بين حديث ابن عمر وحديث أنس لأن الجمع بينهما ظاهر ، وهو أنه قال ما قال فيهم حين أدموه ، ثم لعن رؤسائهم فنزلت الآية عقب ذلك كله .
وأما المعنى فقد قال ابن جرير:يعني بذلك تعالى ذكره:ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ليس لك من الأمر شيء فقوله: "أو يتوب عليهم "منصوب عطفا على قوله أو"يكبتهم "وقد يحتمل أن يكون تأويله ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب عليهم ، فيكون نصب يتوب بمعنى"أو "التي هي في معنى"حتى "والقول الأول أولى بالصواب ، لأنه لا شيء من أمر الخلق إلى أحد سوى خالقهم ، قبل توبة الكفار وعقابهم وبعد ذلك .وتأويل"ليس لك من الأمر شيء "ليس إليك يا محمد من أمر خلقي إلا أن تنفذ فيهم أمري وتنتهي فيهم إلى طاعتي وإنما أمرهم إلي والقضاء فيهم بيدي دون غيري ، أقضي فيهم وأحكم بالذي أشاء من التوبة على من كفر بي وعصاني وخالف أمري أو العذاب إما في عاجل الدنيا بالقتل والنقم المبيرة وإما في آجل الآخرة بما أعددت لأهل الكفر بي .انتهى قول ابن جرير وقد أورد بعده ما عنده من الروايات في الآية .
وأقول:لو لم يكن لما جرى في غزوة أحد حكمة إلا نزول هذه الآية لكفى فكيف وقد جمع إليها ما سيأتي من الحكم الدينية والاجتماعية والحربية ! !
كان المؤمنون السابقون إلى الإسلام على ثقة من وعد الله تعالى بنصر نبيه وإظهار دينه لم يزلزل إيمانهم بذلك ضعفهم وقلتهم ، ولا إخراج المشركين للمهاجرين من ديارهم وأموالهم ، وكان وقعة بدر أول تباشير هذا النصر ، فلما رأوا أن الله تعالى نصرهم على قلتهم وضعفهم بعد ما كان من دعاء الرسول وتضرعه واستغاثته ربه زادهم ذلك إيمانا بأنهم هم المنصورون ، ولكن وقع في نفوس الكثيرين – إن لم نقل في نفوس الجميع- أن نصرهم سيكون بالآيات والعناية الخاصة من غير التزام للسنن الإلهية في الاجتماع البشري ، وأن وجود الرسول فيهم ودعاءه على أعدائهم هما أفعل في التنكيل بالكفار من التزام الأسباب الظاهرة التي أهمها طاعة القائد والتزام النظام العسكري وغير ذلك ، ولكن الإسلام دين الفطرة لا الخوارق .
كانت عاقبة ذلك أن قصروا في هذه الأسباب يوم أحد حتى ظهر عليهم العدو وجرح الرسول نفسه- وإن لم يقصر هو ولم ينهزم صلى الله عليه وسلم كما هي السنة الاجتماعية التي بينها تعالى قبل ذلك في سورة الأنفال بقوله:( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) [ الأنفال:5] – وإن تبرم الرسول من الكافرين ودعا على رؤسائهم ، فكان ذلك فرصة لإعلام المؤمنين بحقيقة من حقائق دين الفطرة ، وهي أن الرسول بشر ليس له من أمر العباد ولا من أمر الكون شيء ، وإنما هو معلم وأسوة حسنة فيما يعلمه والأمر كله لله كما صرح به في الآية 154 يدبره بمقتضى سننه كما نص على ذلك في الآية 137 وكلا الآيتين من هذا السياق .
هذا البيان الإلهي في هذه الواقعة يتمكن في النفوس ما لا يتمكن لو لم يكن مقرونا بواقعة مشهودة لا مجال معها لتأويله ولا لتخصيصه أو تقييده ، فهو من أقوى دعائم التوحيد في القرآن ؛ ودلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم إذ لو كان النبي صلى الله عليه وسلم مؤسس ملك ؛ وزعيم سياسة يديرها بالرأي ، لما قال مثل هذا القول ؛ في مثل هذا الموطن ، فأي نصيب من هذا الدين للذين يجعلون أمر العباد وتدبير شؤون الكون لطائفة من أصحاب القبور أو الأحياء ، الذين يلقبون بالمشايخ والأولياء ، فيزعمون أنهم ينصرون ويخذلون ، ويسعدون ويشقون ، ويميتون ، ويحيون ، ويغنون ويفقرون ، ويمرضون ويشفون ، ويفعلون كل ما يشاؤون ؟ ؟ ، هل يعد هؤلاء من أهل الإسلام ، وأتباع القرآن ، الذي يخاطب خاتم النبيين والمرسلين ، حين لعن رؤساء المشركين ، الذين حاربوه حتى خضبوا بالدم محياه ، وكسروا إحدى ثناياه ، بقوله:( ليس لك من الأمر شيء ) وقوله:( قل إن الأمر كله لله ) ؟ هذا تعليم القرآن الحكيم ، وهذا هديه القويم .
فهل كان أهل بخارى مهتدين به عندما كانوا يقولون وقد علموا بعزم روسيا على الاستيلاء على بلادهم:إن"شاه نقشبند "هو حامي هذه البلاد فلن يستطيعها أحد ؟ هل كان أهل فاس مهتدين عندما لجؤوا إلى قبر وليهم"إدريس "، يستغيثونه ويستفتحون به على الفرنسيس ، هل كان المسلمون على شيء من هدي هذا الدين عندما كانوا يستنصرون بقراءة البخاري أو يستغيثون بالأولياء في بلاد كثيرة ؟ أيزعمون أن تلك النزعات الوثنية تعد من الدعاء المشروع ؟ ألم يعتبروا بهذه الآية وما رواه أهل الصحيح في سببها وهو دعاء النبي على رؤساء المشركين حين فعلوا ما فعلوا ؟ ألم يتعلموا من ذلك أن الاستعداد بالفعل ، مقدم على الدعاء بالقول ، ألم يروا أن سلفهم كانوا ينصرون ، أيام لم يكونوا دائما يقولون ،"اللهم نكس أعلامهم .اللهم زلزل أقدامهم ، اللهم يتم أطفالهم ، اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين "وأنهم بعد اللهج بهذه الكلمة ، غير منصورين في جهة من الجهات ؟ فالعمل العمل ، الاستعداد الاستعداد ، الأهبة الأهبة ،{ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} [ الأنفال:60] ولا قوة إلا بالعلم ، والمال ، ولا مال إلا بالعدل ، ولا عدل مع حكم الاستبداد ، ثم بعد كمال الاستعداد ، يكون الذكر والاستمداد{ إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا اللهولا تنازعوا فتفشلوا} [ الأنفال:45 -46] هذا هدى الإسلام وقد تمثل لهم صدقه في النبي وصالحي المؤمنين ،{ أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين} [ المؤمنون:68] ؟ ؟ .