[ فآتاهُمُ اللّه ثواب الدُّنيا وحسن ثواب الآخرة واللّه يُحبُّ المحسنين] الذين يعملون له عندما يعملون ،ويتوكلون عليه عندما يجاهدون .
تلك هي الصورة في مجتمع النبوّات السابقة ،وتلك هي الصورة التي يريد اللّه للمجتمع المسلم أن يستعيدها في نفسه عندما تضيق به الأمور ،وتُحيق به الهزائم ،وتجتمع في آفاقه الأزمات ،وتتضافر عليه قوى الشر ...فيسأل اللّه الفرج حيث لا فرج ،والمدد حيث لا مدد ؛فتسكن النفس ،ويرتاح اللب ،وتثبت الأقدام ،وينفتح للحياة على اللّه درب طويل لا نهاية له ،تخضرّ فيه أرواح ،وتنبت فيه كلّ الجنائن الروحيّة التي يزهر فيها الورد ،وتتفتح فيها براعم الرياحين ...ويبدأ الإنسان حياته الجديدة الآمنة المطمئنة في آفاق اللّه ...
ما معنى حبّ اللّه ؟!
وهنا ملاحظات:
الأولى: إنَّ اللّه تحدّث عن الصَّابرين ،في قوله: [ واللّه يُحبُّ الصَّابرين] من موقع التعبير عن الحبّ الإلهي للمجاهدين الصَّابرين الذين عاشوا الصبر في خطّ الجهاد ،باعتباره العمق الروحي الذي يؤكّد الثبات في الموقف من خلال تحمّل الآلام القاسية ومواجهة التحدِّيات الكبرى ،ما يوحي بأنَّ الإنسان يقف في مثل هذا الموقف ويُعاني كلّ هذه المعاناة حبّاً باللّه ورسوله ،بحيث يعيش الفرح الروحي في داخل نفسه ،لأنَّ اللّه يراه فيهون عليه كلّ شيء أمام ذلك ،وهذا هو الذي يقوّي إرادة التَّقوى في الإنسان ،ويحرّك قدرته في اتجاه الأهداف ،لأنَّ الإنسان كلّما ازداد حبّاً للّه كلّما ازداد صبراً ،وكلّما ازداد صبراً كلّما ازداد قوّة وثباتاً ،فيتحوّل إلى أن يكون إنسان اللّه الذي يحبّ ما يحبّه اللّه ويكره ما يكرهه في الأعمال والحياة والإنسان ،فيبادله اللّه حبّاً بحبّ .وتلك هي السعادة الكبرى التي ليس فوقها سعادة ،والغنيمة التي لا تساويها غنيمة ،أن يحصل الإنسان على حبّ اللّه ،فتفيض عليه الرحمة بكلّ فيوضاتها ،ويحوطه اللطف الإلهي بكلّ رعايته .
من هم المحسنون ؟
الثانية: إنَّ اللّه تحدّث بكلمة «الحبّ » عن المحسنين في قوله تعالى: [ واللّه يُحبُّ المحسنين] ،هؤلاء الذين عاشوا معنى الإحسان في أفكارهم فكراً يقدّم الإحسان إلى النَّاس الذين يبحثون عن الحلول الفكرية لمشاكلهم العامّة ،وعملاً يقدّمه إلى النَّاس ليُحسن إلى حياتهم الباحثة عن قوّةٍ لضعفها ،وغنًى لفقرها ،وحيويةٍ لحركيّتها ؛فيرفع بذلك مستواهم ،ويحقّق لهم الكثير من الخير في جميع أمورهم وأوضاعهم .
وهؤلاء الذين عاشوا الإحسان لأنفسهم إيماناً في الروح ،وعقيدةً في العقل ،واستقامة في الطريق ،وثباتاً في الخطى ،وتقوًى في العمل ،وانفتاحاً على اللّه في آفاق الغيب ،وجهاداً في ساحة الصراع ،وقوّةً في مواجهة التحدِّيات ،وإخلاصاً للرسالة وللرّسول ،وحبّاً لعباد اللّه ...وهذا هو الذي يمثِّل ارتباطهم باللّه وحركتهم نحو القرب منه ،فيراهم اللّه في مواقع الإحسان لأنفسهم وللنَّاس وللحياة ،من خلال محبتهم له وإقبالهم عليه ،فيمنحهم بذلك حبّاً إلهيّاً ،ليغرقهم في السعادة ،ويغمرهم بالنعيم ،ويسير بهم نحو درجات القرب عنده .
للصَّابرين المحسنين ثواب الدُّنيا والآخرة:
الثالثة: إن اللّه حدّثنا أنَّه لا يكتفي بثواب الآخرة جزاءً للصَّابرين من عباده ،الثابتين في مواقع رضاه ،المحسنين في أقوالهم وأفعالهم ،بل يضيف إليه ثواب الدُّنيا بما يسبغه عليهم من نعمه ويتفضل عليهم بآلائه ،ليتحسسوا في الدُّنيا ثواب أعمالهم في دلالته على رضوان اللّه ،وليكون انتظارهم لثواب الآخرة من موقع الثقة بأنَّ اللّه استجاب لهم دعواتهم وتقبّل أعمالهم ورضي عنهم ،فكانوا المرضيّين عنده الراضين عنه ،وتلك هي النعمة الكبرى التي تمتدّ من الدُّنيا إلى الآخرة .
وهكذا نجد من خلال هذه الملاحظات الثلاث أنَّ اللّه يريد أن يعمّق في شخصية الصَّابرين إرادة الصبر ،وفي وجدان المحسنين روح الإحسان ،من خلال الإعلان عن الحبّ الإلهي لهم ،ليستمتعوا بهذا الحبّ في وجودهم الإيماني الروحي الذي يحلّق في آفاق اللّه بكلّ سعادة وغبطة وانفتاح ،ثُمَّ استثارة الرغبة الإنسانية الذاتية الغريزية في طلب التعويض عمّا يقدّمه الإنسان من جهدٍ أو موقف أو عمل ،وذلك بالحديث عمّا ينتظرهم من الثواب العظيم في الدُّنيا والآخرة ،ليتحرّكوا في اتجاه قيمة الصبر وروحية الإحسان ،من موقع الروح من جهةٍ ،ومن موقع المادة من جهة أخرى .