مناسبة النزول:
روي عن عليّ ( ع ) ؛قال: نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا إلى إخوانكم ،وادخلوا في دينهم .وعن الحسن البصري: إن تستنصحوا اليهود والنصارى وتقبلوا منهم ،لأنَّهم كانوا يستغوونكم ويوقعون لكم الشبه في الدِّين ،ويقولون: لو كان نبيّاً حقّاً لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم ،وإنَّما هو رجل حاله كحال غيره من النَّاس يومٌ له ويومٌ عليه .وعن السدّي: إن تستكينوا لأبي سفيان وأصحابه وتستأمنوهم يردّوكم إلى دينكم .
وقال السدّيحول الآية ( 151 ): لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة ،انطلقوا حتّى بلغوا بعض الطريق ،ثُمَّ إنَّهم ندموا وقالوا: بئس ما صنعنا ،قتلناهم حتّى إذا لم يبقَ منهم إلاَّ الشرذمة تركناهم ،ارجعوا فاستأصلوهم ،فلمّا عزموا على ذلك ،ألقى اللّه تعالى في قلوبهم الرُّعب حتّى رجعوا عمّا همّوا به ،وأنزل اللّه تعالى هذه الآية .
هل هناك حادثةٌ معينة أطلقت هذا النداء القرآني بالتحذير من طاعة الكافرين لئلا يردّوا المؤمنين عن إيمانهم الحقّ بأساليبهم الخبيثة ،فينقلبوا من موقع الإيمان إلى موقع الكفر فيخسروا دينهم ودنياهم ؟هل هناك حالة ضعفٍ استنفدت طاقة المؤمنين على التحمّل فحاولوا الاستعانة بالكافرين من أجل الحصول على أساس من القوّة يستندون إليه ،حتّى يأتي النداء ليؤكّد لهم أنَّ اللّه مولاهم وناصرهم [ وهو خيرُ النَّاصرين] لأنَّه الذي يملك الأمر كلّه ،والقوّة كلّها ؟
قد لا يبدو أمامنا شيءٌ فعليّ من هذا القبيل ،ولكن القرآن يتحدّث عن الحالات الوقائية بالأسلوب نفسه الذي يتحدّث به عن الحالات الدفاعية .وهكذا نستوحي الموقف هنا ،فإنَّ حالة الهزيمة قد تخلق لدى الإنسان وضعاً صعباً يؤدّي إلى الانهيار والانسحاق والضياع في بعض الأحيان ،وقد ينتهي به ذلك إلى البحث عن مخرجٍ للمأزق الذي وقع فيه ،وقد يتمثِّل ذلك في الوقوع في قبضة مخطّط الكفر في التنازل عن بعض المبادئ الأساسية بالدخول في بعض المشاريع المحرّمة ،والسير في الدروب الملتوية التي لا تؤدّي إلى خير وصلاح ،وذلك من أجل الحصول على الأمن المستقبلي من مراكز القوى المنتصرة والكافرة .وربَّما يخيّل إليه أنَّه يستطيع أن يجمع بين الإيمان بعقيدته والانطلاق مع مبادئه ،وبين مداراة هؤلاء ومجاملتهم والسير معهم في بعض خطوات الطريق .
وكانت مثل هذه الأفكار الناشئة عن هذه الحالة ،تشكّل عنصر خطورةٍ على أمثال هؤلاء الطيبين والمهزومين ،لأنَّها تمثِّل النموذج الساذج من التفكير ،فالكفر لا يمثِّل لدى الكافرين حالة مزاجيّة طارئةً ليمكن التعامل معها بأسلوب اللحظة السريعة ،بل هو لدى أصحابه فكرةٌ وخطّة عمل في إضلال المؤمنين وإبعادهم عن دينهم ،وبذلك فهم يعملون على استغلال حالات الضعف من أجل السيطرة على هؤلاء المؤمنين الساذجين ،كما لاحظناه لدى الكثيرين من أصحاب المبادئ الكافرة الذين يطرحون الشعارات الطيّبة المضلّلة في عرض ذكيِّ للقوّة ،وإمعان في إثارة نقاط الضعف لدى الآخرين بأساليب نفسية شيطانية ،من أجل أن يقودوا الضعفاء من المؤمنين إلى ضلالهم بأقرب طريق .
ويمكن أن تكون هذه الآيات وسيلةً من وسائل التوعية الوقائية لدى المؤمنين المهزومين بأن لا يعطوا الموقف أكثر مما يتحمّل ،بحيث يصوّرون لأنفسهم بأنَّ الكافرين يملكون زمام الأمر وحركة القوّة ،فيقعون تحت تأثير أساليبهم ومخططاتهم ويطيعونهم في المواقف والأعمال التي تؤدّي إلى الكفر والضلال وخسارة الدارين طمعاً في النصرة وطلباً للقوّة ...فليست القضية في قصة الهزيمة سوى خسارة لمعركةٍ من المعارك ،الأمر الذي يمثِّل ضعفاً في مرحلة معينة لا في المسيرة كلّها ،فلا بُدَّ لهمفي هذه الحالةمن الرجوع إلى إيمانهم وربِّهم ليعرفوا بأنَّ القوّة للّه جميعاً ،وأنَّ النصر بيده لا بيد غيره ،وأنَّه قد يبتلي عباده المؤمنين ببعض البلاء في بعض مراحل الطريق ،ولكنَّه ينصرهم في نهاية المطاف ،فعليهم أن لا يبتعدوا عن اللّه حتّى لا يضلّوا من حيث يعرفون ومن حيث لا يعرفون .
[ يا أيُّها الذين آمنوا] وعاشوا إيمانهم في عمق وجدانهم إشراقة فكر ،وطمأنينة قلب ،وانطلاقة روح ،وثبات موقف من خلال الثقة باللّه الذي يرعى عباده المؤمنين برعايته وينصرهم بنصره ،ويقوّي مواقعهم ويدعم مواقفهم ،لا تتراجعوا عن التزامكم بالعقيدة التوحيدية المنفتحة على وعي الساحة من جهة ،ووعي ألطاف اللّه بالمؤمنين من جهة أخرى ،ولا تسقطوا أمام الزلزال الذي يحرّكه الآخرون في مواقعكم ليثيروا في قلوبكم الشك والريبة بالحقّ الذي تعتقدونه وتؤمنون به ،بالأساليب المتنوّعة التي تنفذ إلى عقولكم وقلوبكم ومشاعركم الحميمة ،وهذا ما يريد اللّه أن يحذركم منه في أسلوب التوعية الفكرية والعملية في ما تأخذون أو تدعون ،[ إن تطيعوا الذين كفروا] من المشركين أو غيرهم بفعل الخضوع لعلاقات القرابة ،أو بالانسجام مع أجواء المجاملة ،أو بالرغبة بالحصول على بعض المواقع عندهم من أجل ربح عاجل أو شهوة طارئة ،[ يَرُدُّوكُم على أعقابكم] لتتراجعوا عن الدِّين الذي آمنتم به ،والتوحيد الذي أخلصتم له في حركةٍ جديدة للشرك في حياتكم ،وللكفر في أفكاركم بعد أن قطعتم شوطاً طويلاً وبلغتم درجةً عالية من الإسلام للّه ورسوله ،[ فتنقلبوا خاسرين] لأنَّكم بالعودة إلى الكفر تفقدون الصفاء الروحي المشرق في وجدانكم ،وتفتحون على أنفسكم الكثير من المشاكل المعقّدة التي تربك حياتكم ،وتقلق تصوّراتكم ،وتفترس طمأنينتكم ،وتواجهون الخسارة في الدُّنيا والآخرة .وأيّ خسارة أعظم وأكبر من فقدان الإنسان علاقته بربِّه الرحمن الرحيم ،الذي يمنح عباده برحمته كلّ خير ،ويفيض عليهم كلّ نعمة ،ويُعطيهم كلّ قوّةٍ وراحةٍ واطمئنان ،ثُمَّ أيُّ خسارة أعظم من خسارة الإنسان مصيره في الآخرة في نهاية المطاف ،ليعيش عذاب جهنم بدلاً من نعيم الجنَّة ورضوان اللّه ؟!