مناسبة النزول:
جاء في أسباب النزول: روي أنَّ أم سلمة قالت: يا رسول اللّه ،لا أسمع اللّه ذكر النساء في الهجرة بشيء ،فأنزل اللّه تعالى: [ فاستجاب لهم ربُّهُم أنِّي لا أضيعُ عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى] الآية .وقال البلخي: نزلت الآية وما قبلها في المتّبعين للنبيّ( ص ) والمهاجرين معه ،ثُمَّ هي في جميع من سلك سبلهم وحذا حذوهم من المسلمين .
وفي الرِّواية الأولى دلالة على أنَّ النَّاسفي عهد النبيّ( ص )ومنهن بعض أمّهات المؤمنين كأمّ سلمة ،كن يعشن الحساسية تجاه إغفال ذكر النِّساء بشكل صريح في القرآن الكريم ،فقد كان المهاجرون من الرجال والنِّساء ممن تحمّلوا الأذى في سبيل اللّه لالتزامهم بالإسلام عقيدةً وعملاً ،فلماذا يتحدّث القرآن عن المهاجرين دون المهاجرات ؟لأنَّ الصيغة في الآيات كانت على أسلوب الجمع المذكر ،ولكن الظاهر أنَّ التذكير ليس مراداً من التعبير ؛بل الكلمة واردة على سبيل التغليب ،باعتبار أنَّ صفة التذكير تغلب على صفة التأنيث عند إرادة الحديث عنهما بكلمة واحدة .
وقد استجاب اللّه لهذه الرغبة النسائيةإن صحت الرِّوايةفتحدّث عن الذكر والأنثى ممن يعمل للّه من المؤمنين والمؤمنات من دون فرق في القيمة الإيجابية وفي الثواب ،لأنَّ القضية في هذا الجانب هي قضية المبدأ الذي يتحرّك به الإنسان في سبيل اللّه ،وهو الإخراج من داره ،والإيذاء في سبيل اللّه والمقاتلة أو القتل في خطّ الجهاد في سبيل اللّه .وهذا هو الذي ينبغي التأكيد عليه من مساواة المرأة للرّجل في القيمة الجهادية وفي الثواب الإلهي ،لأنَّهما في ذلك سواء في النية والعمل .
وفي الرِّواية الثانية: دلالة على أنَّ الآية لا تنغلق على النَّاس الذين عاشوا في عهد الدعوة الأول ،ولو كانت قد نزلت فيهم ،بل هي منفتحة على كلّ السالكين في هذا السبيل الجهادي والعملي في خطّ الإسلام ،لأنَّه لا خصوصيةمن حيث المبدأللمرحلة الأولى إلاَّ من خلال أفضلية الموقف في عناصره القيميّة بعيداً عن الزمن في خصوصياته ،فقد يكون المتأخرون متميّزين ببعض الخصائص التي تميّزهم عن المتقدّمين ،وقد تكون مرحلة التأسيس أكثر غنى في بعض عناصرها من المراحل التالية ،بلحاظ قسوة الاضطهاد التي عاشها المسلمون في بداية الدعوة .
ما هو المنهج الأصيل الذي يمكن للإنسان أن يكتشف به الحقيقة في وجود اللّه ،وفي اللقاء به ،وفي الشعور بعظمته التي تستولي على الفكر والقلب والشعور ؟هل هو الفلسفة في أسلوبها التحليلي الذي يغرق الإنسان معه في الآفاق التجريديّة ،وفي فرضياتها التي تقترب من الخيال أو تعيش معه ؟
[ إنَّ في خلق السَّماوات والأرض واختلاف الليل والنَّهار لآياتٍ لأولي الألباب] .إنَّ القرآن يحدّد المنهج في الفكر الذي يُلاحق الظواهر الكونيّة في عملية تأمّل وتدبّر وتفكير ،فليس للإنسان أن يحدّق في كتب الفلسفة ،بل عليه أن يحدّق في كتاب الكون ،ليفكّر في خلق السَّماوات والأرض وما يتمثّل فيهما من قوانين طبيعية تنظم لهما المسار ،وتربطهما بالحكمة في كلّ الحركات والسكنات والدقائق التي تتعلّق بهما ،وليرصد حركة الليل والنَّهار ،وكيف تختلف في الزيادة والنقصان حسب اختلاف الفصول والأزمنة ،فيعرف أنَّ هناك سرّاً عميقاً وراء ذلك كلّه ،فيكتشف أنَّ هناك عقلاً واسعاً كاملاً يخطّط للكون ونظامه ،وإرادة قويّة فاعلةً قادرةً تسيطر عليه وتوجه حركته وتمسكه وتحفظه من الانهيار والضياع ،فذلك هو النهج الذي يمكن أن يكون آيةً للعقول التي تفكّر في كلّ ما حولها ومَنْ حولها ،ولأصحابها الذين لا يتحرّكون في الحياة ولا يحكمون على الأشياء سلباً أو إيجاباً إلاَّ من خلالها ؛وبهذا يلتقي العلم والدِّين في وجود اللّه ،وفي تكامل الإنسان من خلال هذا الوجود ،على أساس النتائج التي يتوصل إليها في أبحاثه ودراساته ،لأنَّ الدِّين لا يدعو إلى الإيمان الأعمىفي ما يدعو إليه من إيمانبل يعمل على خطّ الإيمان المنفتح الواعي المبنيّ على التفكير والتحليل الدقيق .
وفي ضوء ذلك ،نستوحي الفكرة التي تنطلق لتؤكّد احترام الإسلام للعقل في ما يريد له أن يقوم به من أدوارٍ تتصل بالعقيدة الأساس فيه ،فلولا ثقته بالعقل في ما يحلل وما يستنتج ،لما اعتبره السمة للنَّاس الذين يتحرّكون في اتجاه اكتشاف الحقيقة ،ليوحي إليهم بأنَّ عظمة الإنسان في عقله ،كما أنَّ عظمة العقل في حركته في معرفة الحقّ من دراسته الفطرية للكون الواسع من حوله ،في ما يحيط به ،وفيمن يحيطون به ...فإذا كان العقل هو القاعدة الأساس في أصل العقيدة ،فكيف يمكن أن يُنسب إلى الدِّين انطلاقه من الخرافة والأسطورة والخيالات المثاليّة التي لا ترجع إلى قاعدة ولا تعود إلى محصل ؟إنَّ أولي الألباب لا ينطلقون في عقائدهم إلاَّ من خلال ألبابهم وعقولهم التي تُلاحق الظاهرة الكونية في عملية حساب ،كما تُلاحق الظواهر السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة في ربطها بأسبابها وأوضاعها ،لتكون العقيدة محسوبة ،كما يكون الواقع العملي محسوباً في مقدماته ونتائجه .
وليست العقيدة باللّه في شخصية الإنسان المؤمن حالةً ذهنية مترفة مجرّدة ،بل هي حالة فكريّة واقعية ترتبط باللّه لتحسّ به في حركة الفكر والشعور ،كما لو كان ماثلاً أمامها في الحسّ والصورة ؛ولهذا فإنَّها تشعر به يحيط بها من جميع جوانبها وفي جميع حالاتها ،ما يجعلها تذكره في كلّ صعيد ومع كلّ وضع .