الخلق: التقدير والترتيب الدال على الإتقان .
اختلاف الليل والنهار: تعاقبهما .
الألباب: العقول .
وعلى جنوبهم: مضطجعين .
الأبرار: المحسنون ،واحدُها بار أو بَر .
على رسُلك: على أَلسنة رسلك .
من أسلوب القرآن الكريم أنه يجذب النفوس والعقول من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق ،فيأتي بين الآيات وفي أواخر السور بآيات مشوّقة تريح الأعصاب وتشوق القلوب .
فقد اشتملت هذه الآية الحكيمة على أمر هو:
لما طال الكلام في تقرير الأخذ والرد والجواب عن شبهات المبطلين ،عاد التنزيل إلى إثارة القلوب بِذِكر ما يدل على التوحيد والألوهية .فقال: إن هذا الكون بذاته كتابٌ مفتوح ،يحمل دلائل الإيمان وآياته ،ويشير إلى أن وراء هذا الكون يداً تدبره بحكمة ،ويوحي بأن وراء هذه الحياة الدنيا حياةً أخرى ،وحساباً وجزاء .
هذا ما اتفقت على وجوده الأديان الكتابيّة ،وان اختلفت في تمثيل الحياة الأخرى .
وقد آمن الفلاسفة بالحياة الأخرى قبل الأديان الكتابية جميعاً وبعد مجيئها أيضا .فمن أشهر المؤمنين بها قبل الأديان «أفلاطون » ،ومن أشهرهم بعدها «عمانويل كانت » ،وهما يجمعان أطراف الآراء الفلسفية في سبب الإيمان ببقاء النفس بعد الموت ....ونريد من الإشارة الموجزة إلى رأي هذين الفيلسوفين ،أن يذكر الناظرون في مسألة الحياة بعد الموت أنها مسألة بحث وتفكير ،لا قضية اعتقاد وإيمان فحسب ..إن العقل لا يخرجها من تناول بحثه ،فلا بد من توضيح الحقيقة الاعتقادية بالمحسوسات في كثير من الأحوال .وعلى هذا ،ينبغي أن يروض فكره كلُّ من ينظر إلى عقيدة الحياة الأخرى في القرآن الكريم .وإنما يدرك هذه الدلائل ،ويرى هذه الحكمة «أُولو الألباب » من الناس ،لا الذين يمرون بهذا الكتاب المفتوح وأعينهم مغمضة ،وعقولهم مغلقة غير واعين .
وها هو التفسير باقتضاب:
إن في خلق الله للسماوات و الأرض ،بما فيهما من إبداع ،وإحكام نظام ،وبديع تقدير ،وفي اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما بنظام دقيق نحسّ آثاره في أجسامنا بفعل حرارة الشمس وبرد الليل ،لدلائل بيناتٍ لأصحاب العقول المدركة على وحدانية الله ،وكمال قدرته .
وفي هذه الآية إشارة إلى حقائق مذهلة في هذا الكون العجيب ،ذلك أن السماء ما هي إلا آية من آيات الله تبدو لنا بتأثير الأشعة الشمسية على الغلاف الجوي المحيط بالأرض .
فعندما تسقط هذه الأشعة على ذريرات العناصر الكيماوية التي يتألف منها الجو ،وما يحمله من دقائق عالقة به ،تنعكس هذه الأشعة وتتشتت ،فنرى نحن الضوء الأبيض الذي يتألف من جميع الألوان المرئية .
وصفوة القول ،أن ضوء النهار يتطلب الإشعاع الشمسي ،وكميةً متناسية من الغبار الجوي .فقد حدث في سنة 1944 أن أظلمت السماء فجأة في وضح النهار ،ولشدة ظلمتها صار النهار كأنه الليل .وقد ظل الأمر كذلك زمناً وجيزاً ،ثم تحولت السماء إلى لون أحمر ،تدرّج إلى لون برتقالي ،فأصفر ،حتى عادت إلى حالتها الطبيعية ،بعد نحو ساعة أو أكثر .
وقد تبين فيما بعد أن هذه الظاهرة نشأت من تفتُّت نيزك في السماء ،استحال إلى رماد ،وحملته الرياح إلى مسافات بعيدة من أواسط إفريقية إلى شمالها ،ثم إلى غربي آسيا ،حيث شوهدت هذه الظاهرة في سورية .وتفسير ذلك أن الغبار المعلق في الفضاء قد حجب نور الشمس ،فلما قلّت كثافته أخذ الضوءُ في الاحمرار والاصفرار إلى أن عاد طبيعيا .
أما ما نراه في هذه السماء من نجوم وأجرام سماوية ومجرّات وكائنات ،فهي أمور كُتب فيها مجلداتوموسوعات يتطلب التعرف على أنظمتها دراسة واسعة وتخصصا كبيرا ،وهي مظهر من مظاهر قدرة الله سبحانه وتعالى التي تتجلى في خلقه كلَّ ذلك .
والأرض أهم عالم عرفناه ،وفيها أحوال لا تُوجد مثلها في شيء من هذا الكون الواسع .هي على ضخامتها في نظرنا لا تساوي في الحقيقة ذرة في هذا الكون العجيب .ولو أن حجمها كان أقل أو أكثر مما هي عليه الآن ،لاستحالت الحياة فوقها .وهي تدور بسرعة مقدراها ألف ميل في الساعة ،وفيها جاذبية غير عادية ،وهي تشد كل شيء إليها بفعل تلك الجاذبية .
وتُكمل الأرض دورة واحدة حول محورها كل أربع وعشرين ساعة ،ولو فرضنا أن انخفضت هذه السرعة إلى مائتي ميل في الساعة ،لطالت أوقات لَيلِنا ونهارنا عشرات المرات ،عما هي عليه الآن .ويترتب على ذلك أن تحرق الشمس كل شيء فوق الأرض ،فإن بقي بعد ذلك شيء قضت عليه البرودة الشديدة في الليل .
ثم إن هذه الأرض دائرة في الفضاء حول الشمس ،وعلى زاوية محددة ،الأمر الذي تنشأ عنه فصول السنة ،وصلاحية البقاع للزراعة والسكن ،فلو لم تَسِر الأرض على هذه الزاوية لغمر الظلام القطبين طوال السنة ،ولسار بخار البحار شمالاً وجنوبا ،ولما بقي على الأرض غير جبال الثلج وفيافي الصحراوات ..إذ ذاك تغدو الحياة على هذه الأرض مستحيلة تماماً .
ولو كانت قشرة الأرض أكثر سُمكاً مما هي الآن بمقدار عشرة أقدام لما وجد الأوكسجين ،لأن القشرة الأرضية ستمتص الأوكسجين في تلك الحال .وبدونه تستحيل الحياة الحيوانية .
وكذلك لو كانت البحار أعمق مما هي الآن بضعة أقدام ،لانجذبَ إليها غاز ثاني أوكسيد الكربون ،والأوكسجين ،ولاستحال وجود النباتات عند ذلك .
ويحيط بالأرض غلاف جوي خليط من الغازات التي تحتفظ بخصائصها ،وأقربُ طبقات الأرض إلى سطحها تسمى تروبوسفير ،وهي تمتد إلى ارتفاع ثمانية كليو مترات عند القطبين والى 11 كم في خطوط العرض الوسطى ،و12 كم عند خط الاستواء .وفي هذه الطبقة يحدث خلط مستمر للهواء نتيجة للتيارات الصاعدة والهابطة ....ويتركب الغلاف الجوي من الأزوت والأوكسجين ،والأرغون ،وثاني أوكسيد الكربون ،وكميات ضئيلة من غازات النيون والكريتون والهيليوم والأيدروجين والكسينون والأوزون ،بالإضافة إلى كميات متغيرة من بخار الماء والغبار .ولكل هذه المواد نسب معينة محددة لا تزيد ولا تنقص .
ولو كان الغلاف الجوي للأرض ألطف مما عليه الآن ،لاخترقت النيازك الغلاف الخارجي منه كل يوم ،ولرأينا هذه النيازك مضيئة في الليل ،ولسقطت على كل بقعة من الأرض وأحرقتها .فولا أن غلاف الأرض الهوائي يقينا من هذه الشهب لأحرقتنا .ذلك أن سرعتها أكبر من سرعة طلقة البندقية بتسعين مرة ،كما أن حرارتها الشديدة كافية لإهلاك كل ما على سطح الأرض .
والآن .ألا يدل هذا التوازن الدقيق العجيب جداً على قدرة الخالق وبديع صنعه !الحق أنه لم يكن صدفة ،ولا وُجد عفوا كما يقول المبطلون الجاهلون .
لكن ،من يدرك ذلك ؟إنهم أولوا الألباب ،