/م61
[ فمن حاجّك فيه]في عيسىفي أنَّه «هو اللّه » ،وأنَّه «ابن اللّه » ،«وأنَّ اللّه ثالث ثلاثة » ،ولم يبلغ الحوار نهايته الفكرية في قناعتهم الوجدانية ،أو أنَّه عبد اللّه ورسوله ،وأنَّ اللّه لا إله إلاَّ هو الأحد ،[ لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد] ( الإخلاص:34 ) ،[ من بعد ما جاءك من العلم] الذي قدّمته إليهم من القرآن والآيات البينات على الحقّ ،فليكن للمحاججة أسلوب آخر حاسم تنطلق فيه من موقع التحدّي الكبير الذي يقف فيه الإنسان بين يدي اللّه في مواجهته للإنسان الآخر في قضية العقيدة المرتبطة بقضية الإيمان باللّه في مضمونه التوحيدي الحقيقي ،وهو الأسلوب الذي أخلص الإنسان في الأخذ به والاستعداد لنتائجه السلبية ،التي قد تمثِّل الخطر عليه وعلى من يتصل به ممن يقدمهم أمامه من أهله ليكونوا طرفاً في المباهلة ،فهذا ما يمثِّل النهاية الحاسمة التي تتمثّل في الواقع الإيجابي المنفتح لصاحب الحقّ والواقع السلبي المنغلق في حياة المضادّ للحقّ [ فقل تعالوا] يا نصارى نجران ،هلموا إلى موقف آخر يتمثّل فيه العمق العميق للرأي القوي والعزيمة الحازمة ،[ ندعُ أبناءنا] الذين يجسِّدون أعمق علاقة حميمة يعيشها الإنسان في علاقته بالنّاس ،بحيث تتصل حياته بامتداد حياتهم ،وعاطفته بالمعنى العميق لوجودهم ؛فيتعب ليرتاحوا ،ويجوع ليشبعوا ،ويظمأ ليرتووا ،ويضحي بحياته ليعيشوا بعده ...وها أنا أقدّم بين يديَّ للمباهلة ولديّ الحسن والحسين اللذين يمثِّلان كلّ حبّي في العاطفة ،وكلّ شعوري في المحبة ،وأملي بمستقبل الرسالة ،فهما سيِّدا شباب أهل الجنّة ،وريحانتاي في الدنيا .
قال صاحب مجمع البيان: «أجمع المفسِّرون على أنَّ المراد بأبنائنا الحسن والحسين( ع ) ،قال أبو بكر الرازي: هذا يدل على أنَّ الحسن والحسين ابنا رسول اللّه ( ص ) وأنَّ ولد الابنة ابن في الحقيقة .وقال ابن أبي علانوهو أحد أئمة المعتزلة: هذا يدل على أنَّ الحسن والحسين كانا مكلّفين في تلك الحال ،لأنَّ المباهلة لا تجوز إلاَّ مع البالغين ،وقال أصحابنا: إنَّ صغر السن ونقصانها عن حدِّ بلوغ الحلم لا يُنافي كمال العقل ،وإنَّما جعل بلوغ الحلم حدّاً لتعلّق الأحكام الشرعية ،وقد كان سنّهما في تلك الحال سنّاً لا يمتنع معها أن يكونا كاملي العقل .على أنَّ عندنا يجوز أن يخرق اللّه العادات للأئمة ويخصّهم بما لا يُشركهم فيه غيرهم ،فلو صحّ أنَّ كمال العقل غير معتاد في تلك السن ،لجاز ذلك فيهم إبانةً لهم عمّن سواهم ،ودلالة على مكانهم من اللّه تعالى واختصاصهم ،ومما يؤيده من الأخبار قول النبيّ ( ص ): ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا » .
ونلاحظ على هذا الحديث حول البلوغ وكمال العقل كشرط للمباهلة ،أنَّ مثل هذا الحديث في الجدل الدائر فيه ،يتوقف على أن يكون الحسنان ( ع ) طرفين مستقلين في المباهلة ،كما لو كانا هما اللذان يتولّيانها في مقابل نظائرهما من الآخرين ،ليباهل الرجال الرجال والنساء النساء ،والأبناء الأبناء ؛ولكن يمكن أن تكون المسألة واردة على أساس أن يقدّم النبيّ ( ص )وهو واثق بأنَّ الحقّ معه وأنَّ النتيجة الحاسمة الإيجابية ستكون لهابنيه وابنته وابن عمّه ،ليكونوا طرفاً في الابتهال وفريقاً في النتائج الحاسمة الأخيرة ،بعيداً عمّا إذا كانوا مشاركين في التحدّي ؛واللّه العالم .
[ وأبناءكم] ممّن تختارون منهم للحضور والابتهال في هذا الموقف الصعب ،[ ونساءنا] اللاتي يمثّلن أقرب موقع للانتماء الإنساني الروحي من النساء في حياتنا الخاصة ،وها أنا أقدّم بين يدي ابنتي فاطمة سيِّدة نساء العالمين ،التي هي بضعةٌ مني ،يريبني ما رابها ويغضب اللّه لغضبها ويرضى لرضاها ،لأنَّ غضبها في مواقع غضب اللّه ورضاها في مواقع رضاه .إنَّني أقدّمها في هذا التحدّي الكبير للدلالة على أنَّني على يقين من صدق دعوتي ،لأنَّ الإنسان لا يقدّم أحبّ النّاس لديه في مواقع احتمال الخطر إلاَّ إذا كان واثقاً من النجاة .
[ ونساءكم] ممن تختارون من النساء في مجتمعكم الخاص [ وأنفسنا] ممن هم في موقع النفس من حيث المنزلة والمحبة والإعزاز ،وهو عليّ ( ع ) لأنَّه يمثِّل الصورة الحيّة الصّادقة لكلّ الكمالات والتطلّعات والسلوكيات والملكات التي أمثّلها ،لأنَّني ربيته وأنشأته منذ طفولته على صورتي في أخلاقي وروحياتي وأقوالي وأمثالي ،فكان مني بمنزلة النفس من النفس ،والذات من الذات ،والروح من الروح ،والعقل من العقل ...وليس هناك في الساحة غير عليّ ( ع ) الذي عاش معي كما لم يعش أحدٌ غيره معي ،وكان مني «بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنَّه لا نبيّ بعدي » ،[ وأنفسكم] ممن يمثّلون وجودكم وذواتكم في حياتكم الخاصة ،[ ثُمَّ نبتهل] وندعو اللّه ونجتهد في الإخلاص له والخضوع بين يديه ،[ فنجعل لعنَة اللّه على الكاذبين] منّا ومنكم ،فذلك هو الذي ينتهي بالأمور إلى نهاياتها الأخيرة من دون نزاع ولا خصام .
وجاء في تفسير الكشاف للزمخشري «وعن عائشةرضي اللّه عنهاأنَّ رسول اللّه ( ص ) خرج وعليه مرط مرجل من شعر أسود ،فجاء الحسن فأدخله ،ثُمَّ جاء الحسين فأدخله ،ثُمَّ فاطمة ،ثُمَّ عليّ ،ثُمَّ قال: [ إنَّما يُريد اللّه ليُذهب عنكُمُ الرجس أهل البيت] ( الأحزاب:33 ) .فإن قلت: ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلاَّ ليتبين الكاذب منه ومن خصمه ،وذلك أمرٌ يختص به وبمن يُكاذبه ،فما معنى ضمّ الأبناء والنساء ؟قلت: ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه ، حيثُ استجرأ على تعويض أعزته وأفلاذ كبدهوأحبّ النّاس إليه لذلك ،ولم يقتصر على تعريض نفسه له ،وعلى ثقته بكذب خصمه ،حتّى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة .وخصّ الأبناء والنساء لأنَّهم أعزّ الأهل وألصقهم بالقلوب ،وربَّما فداهم الرّجل بنفسه وحارب دونهم حتّى يُقتل ،ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ،ويسمَّون الذادة عنهم بأرواحهم حماة الحقائق ،وقدّمهم في الذكر على الأنفس لينبّه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم ،وليؤذن بأنَّهم مقدّمون على الأنفس مفدون بها .وفيها دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السَّلام .وفيه برهان واضح على صحة نبوّة النبيّ( ص ) ،لأنَّه لم يروِ أحد من موافق ولا مخالف أنَّهم أجابوا إلى ذلك » .
وقال صاحب التفسير الكبير الفخر الرازي: «واعلم أنَّ هذه الرِّوايةأي رواية المباهلةكالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث » .
علامة استفهام حول نزول الآية:
وقد أثار بعض المفسِّرين علامة استفهام حول نزول هذه الآية في أهل البيت بلحاظ صيغة الجمع الواردة في [ أبناءنا] [ ونساءنا] [ وأنفسنا] ،التي لا تصدق إلاَّ على ما زاد عن اثنين ،فكيف تنطبق الأولى على الحسن والحسين ( ع ) ،والثانية على سيِّدتنا فاطمة الزهراء ( ع ) ،والثالثة على أمير المؤمنين عليّ ( ع ) ؟
والجواب: إنَّ القيمة التكريمية المميزة كانت من خلال تطبيق الجمع على هؤلاء واقتصاره عليهم ،في الوقت الذي يمكن للكلمةفي ذاتهاأن تنطبق على أكثر من ذلك ،فلم تكن الكلمات المذكورة واردة في هؤلاء على نحو اختصاص المضمون اللغوي بهم ،بل من خلال اختصاص الاختيار النبويبوحي اللّهبهم ،وهذا أمرٌ وارد في أكثر من آية ،حيثُ تأتي الآية بصيغة الجمع لتأكيد المبدأ العام الشامل لكلّ الأفراد من حيث القاعدة ،مع أنَّ المصداق واحد ،كما ورد ذلك في قوله تعالى: [ الذين قال لهم النّاسُ إنَّ الناسَ قد جمعوا لكُم فاخشوهم] ( آل عمران:173 ) .فقد ذكر فريقٌ من المفسِّرين أنَّ القائل هو نسيم بن مسعود ،لأنَّه كان قد أخذ أمراً من أبي سفيان لتخويف المسلمين من المشركين ،وقوله تعالى: [ لقد سَمِعَ اللّهُ قولَ الذين قالوا إنَّ اللّه فقيرٌ ونحنُ أغنياء] ( آل عمران:181 ) .فقد ذكر في كلام المفسِّرين أنَّ القائل هو حيي بن أخطب أو فنحاص ،وذلك باعتبار أنَّ اليهود الآخرين يتفقون معه في هذا القول أو يرضون به ،ما يجعل قوله قولهم ،ونحو ذلك من الآيات والكلمات المروية عن كلام العرب التي تنطلق في موقع الفرد الواحد ليتحدّث عنها بصيغة الجمع ،من أجل الإيحاء بأنَّ المسألة لا تقتصر عليه ،بل تتعداهمن خلال الذهنية المشتركة بينه وبين فريقهإلى الفريق كلّه .
أمّا في هذه الآية ،فإنَّ النبيّ ( ص )بتوجيه من اللّه تعالى له ، أراد له أن يؤكّد المباهلة في خطّ التحدّي الكبير في موقع الاستعداد لتعريض أعزّ النّاس عليه للخطر الآتي من النتائج السلبية المطروحة في ساحة المباهلة بهلاك الكاذب ،وأطلق الحديث عن الأبناء والنساء والأنفس ممن يختص به لإطلاق المبدأ في هذه العناوين ،فكأنَّه يريد أن يقول لهم إنَّه على استعداد لدعوة هؤلاء بكلِّ ما يمثِّلونه من عمق عاطفي في نفسه إلى المباهلة ،للتدليل على صدق دعوته من دون التحديد في عنوان الدعوة ،ولكنَّهم كانوا محدّدين في نفسه بأشخاص معينين ،لأنَّهم هم المفضّلون لديه ،القريبون إليه ،الأثيرون عنده .
استواء النسب من جهة الولد والبنت:
ونلاحظهناإقرار المضمون النسبي الذي يجعل أبناء البنت منتسبين إلى أبيها باعتبار استواء النسبمن جهة الولد والبنتإليه ،فلم يفرّق القرآن الكريم بين أبناء الابن وأبناء البنت ،وأبطل النظرة الجاهلية التي كانت تعتبر أبناء الابنوحدهمهم الأبناء ،بينما لا تعتبر أبناء البنت أبناءً ،وذلك ما عبّر عنه الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهنّ أبناء الرجال الأباعد
لأنَّهم يرون المرأةالأممجرّد وعاء لا دور لها في الانتساب من حيث التكوين .وهذا خطأ في التحليل الواقعي ،فإنَّ الولدذكراً كان أو أنثىيولد من خلال نطفة الأب وبويضة الأم ،بحيث يكون نسبته إليهما على حدٍّ سواء في طبيعة خلقه وتكوينه .
وقد جاء في القرآن الكريم اعتبار عيسى( ع ) من ذرية إبراهيم( ع ) ،مع أنَّه يرتبط به وينتسب إليه من خلال أمّه مريم( ع ) ،وذلك هو قوله تعالى: [ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاًّ هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذرِّيته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريّا ويحيى وعيسى وإلياس كلٌّ من الصَّالحين] ( الأنعام:8485 ) .كما جاء في قوله تعالى: [ وحلائلُ أبنائِكُمُ] ( النساء:23 ) الذي استفاد منه العلماء حرمة زواج الجدّ بزوجة حفيده وابن الابن ،وسبطه ،وابن البنت ،لصدق كونها حليلة الابن في الجميع على حدٍّ سواء .
المباهلة في الخطّ الإسلامي العام:
وإذا كانت الآية مختصة بالنبيّ محمَّد ( ص ) في الواقعة الخاصة مع وفد نصارى نجران ،فإنَّها لا تختص ظاهراً به ،بل يُمكن أن تنطلق في كلّ موردٍ مماثلٍ لم يصل فيه الحوار إلى نهاية حاسمة لعدم استعداد الطرف الآخر للاقتناع بالحجّةبعد إقامتها عليهفتكون المباهلة هي الخيار الأخير في ساحة التحدّي ،فإنَّ اللّه قد طرح المسألة على رسول اللّه ( ص ) من خلال أنَّها وسيلة من وسائل المواجهة لإسقاط موقف الآخرين في خطّ الباطل لمصلحة موقف الحقّ ،لا لخصوصيةٍ في المورد الخاص .وقد ورد في الرِّواية عن الإمام جعفر الصادق ( ع ) أنَّه قال: إذا كان ذلكأي إذا لم يقبل المعاندون للحقّفادعهم إلى المباهلة قلت: وكيف أصنع ؟فقال: أصلح نفسك ثلاثاً ،وأظنّه قال: صُم واغتسل وابرز أنت وهو إلى الجبّان ،فشبّك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه ،وابدأ بنفسك فقل: اللّهمَّ ربُّ السَّماوات السبع وربُّ الأرضين السبع ،عالم الغيب والشهادة ،الرحمن الرحيم ؛إن كان ( فلان ) جحد حقّاً وادّعى باطلاً ،فأنزل عليه حسباناً من السَّماء أو عذاباً أليماً ،ثُمَّ رُدَّ الدعوة عليه ،فإنَّك لا تلبث أن ترى ذلك فيه .