{ فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل} لهم قولا يظهر علمك الحق وارتيابهم الباطل{ تعالوا ندع أبناءنا وأبناءك ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل} يقال ابتهل الرجل دعا وتضرع ، والقوم تلاعنوا .وفسر الابتهال هنا بقوله:{ فنجعل لعنت الله على الكاذبين} وتسمى هذه الآية آية المباهلة وقد ورد من عدة طرق أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا نصارى نجران للمباهلة فأبوا .أخرج البخاري ومسلم
"أن العاقب والسيد أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يلاعنهما فقال أحدهما لصاحبه:لا تلاعنه فوالله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح أبدا ولا عقبنا من بعدنا .فقال له نعطيك ما سألت ، فابعث معنا رجلا أمينا فقال:قم يا أبا عبيدة فلما قام قال:هذا أمين هذه الأمة "{[310]} .
وأخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس"إن ثمانية من نصارى نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم العاقب والسيد فأنزل الله تعالى:{ قل تعالوا} .فقالوا أخرنا ثلاثة أيام فذهبوا إلى قريظة والنضير وبني قينقاع فاستشاروهم فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه وقالوا:هو النبي الذي نجده في التوراة .فصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على ألف حلة في صفر وألف في رجب ودراهم "وروي في الصلح غير ذلك .ومنها صالحوه على الجزية .وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار للمباهلة عليا وفاطمة وولديهما عليهم السلام والرضوان وخرج بهم وقال: "إن أنا دعوت فأمِّنوا أنتم "وفي رواية لمسلم والترمذي وغيرهما عن سعد قال: "لما نزلت هذه الآية{ قل تعالوا} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا وقال:اللهم هؤلاء أهلي "{[311]} وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه{ قل تعالوا ندع أبناءنا} قال فجاء بأبي بكر وولده وبعمر وولده وبعثمان وولده وبعلي وولده .والظاهر أن الكلام في جماعة المؤمنين .
قال الأستاذ الإمام:الروايات متفقة على أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار للمباهلة عليا وفاطمة وولديهما ويحملون كلمة نساءنا على علي وفاطمة وكلمة أنفسنا على علي فقط ومصادر هذه الروايات الشيعة ومقصدهم منها معروف .وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة .ولكن واضيعها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة"نساءنا "لا يقولها العربي ويريد بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج ولا يفهم هذا من لغتهم .وأبعد من ذلك ان يراد بأنفسنا علي عليه الرضوان .ثم إن وفد النجران الذين قالوا إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساؤهم وأولادهم .وكل ما يفهم من الآية أمر النبي صلى الله عليه وسلم ان يدعو المحاجين والمجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا ونساء وأطفالا ويجمع هو المؤمنين رجالا ونساء وأطفالا ويبتهلون إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى وهذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه وثقته بما يقول كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب سواء كانوا نصارى نجران أو غيرهم على امترائهم في حجاجهم ومماراتهم فيما يقولون وزلزالهم فيما يعتقدون وكونهم على غير بينة ولا يقين .وأنى لمن يؤمن بالله أن يرضى بأن يجتمع مثل هذا الجمع من الناس المحقين والمبطلين في صعيد واحد متوجهين إلى الله تعالى في طلب لعنه وإبعاده من رحمته ؟ وأي جراءة على الله واستهزاء بقدرته وعظمته أقوى من هذا ؟
قال:أما كون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى عليه السلام فحسبنا في بيانه قوله تعالى:{ من بعد ما جاءك من العلم} فالعلم في هذه المسائل الاعتقادية لا يراد به إلا اليقين وفي قوله:{ ندع أبناءنا وأبناءكم} إلخ وجهان أحدهما أن كل فريق يدعو أهله فنحن المسلمين ندعو أبناءنا ونساءنا وأنفسنا وأنتم كذلك ولا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الأنفس وإنما الإشكال فيه على قول الشيعة ومن شايعهم على القول بالتخصيص .
أقول:وفي الآية ما ترى من الحكم بمشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمباراة القومية والمناضلة الدينية وهو مبني على اعتبار المرأة كالرجل في الأمور العامة إلا ما استثني منها ككونها لا تباشر الحرب بنفسها بل يكون حظها من الجهاد خدمة المحاربين كمداواة الجرحى .وقد علمنا ما تقدم أن الحكمة في الدعوة إلى المباهلة هي إظهار الثقة بالاعتقاد واليقين فيه ، فلو لم يعلم الله أن المؤمنات على يقين في اعتقادهن كالمؤمنين لما أشركهن معهم في هذا الحكم .فأين هذا من حال نسائنا البوم ، ومن اعتقاد جمهورنا فيما ينبغي أن يكن عليه ؟ لا علم لهن بحقائق الدين ولا بما بيننا وبين غيرنا من الخلاف والوفاق ولا مشاركة للرجال في عمل من الأعمال الدينية ولا الاجتماعية .فهل فرض الإسلام على نساء الأغنياء لا سيما في المدن أن لا يعرفن غير التطرس والتطرز والتورن وعلى نساء الفقراء لا سيما القرى والبوادي أن يكن كالأتن الحاملة والبقر العاملة ؟ وهل حرم على هؤلاء وأولئك علم الدنيا والدين ، والاشتراك في شيء من شؤون العالمين ؟ كلا بل فسق الرجال عن أمر ربهم ، فوضعوا النساء في هذا الموضع ، بحكم قوتهم ، فصغرت نفوسهن ، وهزلت آدابهن ، وضعفت ديانتهن ، ونحفت إنسانيتهن ، وصرن كالدواجن في البيوت ، أو السوائم في الصحراء ، أو السواني على السواقي والآبار ، أو ذوات الحرث في الحقول والغيطان ، فساءت تربية البنين والبنات ، وسرى الفساد الاجتماعي من الأفراد إلى الجماعات ، فعم الأسر والعشائر ، والشعوب والقبائل ، لبث المسلمون على هذا الجهل الفاضح أحقابا ، حتى قام فيهم اليوم من يعيرهم باحتقار النساء واستعبادهن ويطالبونهم بتحريرهن ومشاركتهن في العلم والأدب وشؤون الحياة .منهم من يطالب بهذا اتباعا لهدى الإسلام وما جاء به من الإصلاح ومنهم من يطالب به تقليدا لمدنية أوروبا .وقد استحسنت الدعوة الأولى بالقول دون العمل وأجيبت الدعوة الأخرى بالعمل على ذم الأكثرين لها بالقول .فأنشأ المسلمون يعلمون بناتهم القراءة والكتابة وبعض اللغات الأوربية والعزف بآلات اللهو وبعض أعمال اليد كالخياطة والتطريز ولكن هذا التعليم لا يصحبه شيء من التربية الدينية ولا من إصلاح الأخلاق والعادات بل هو من عوامل الانقلاب الاجتماعي الذي تجهل عاقبته .