[ يا أهلَ الكتابِ لِمَ تلبِسُونَ الحقَّ بالباطِلِ] وتلعبون على الموقف ،فتقومون ببعض الأساليب التي قد تخلط الحقّ بالباطل ،للإيحاء بالاستبعاد عن الالتزام بالإسلام ،وذلك كما في تحريفكم التوراة والإنجيل ،فتقدّمونهما إلى النّاس باعتبار أنَّهما من وحي اللّه ،ولكن من دون تقديم الصبغة الأصلية للآية هنا أو هناك ،وكما في تقديم التوراة أو الإنجيل مع تحريف الكلم عن مواضعه من حيث وضع الكلمة في غير موضعها ،أو إبعاد الكلام عن معناه بالإيحاء بأنَّ المراد به معنى آخر ،أو بإخفاء بعض الآيات المبشرة بالنبيّ محمَّد ( ص ) وإظهار أنَّ التوراة خالية من ذلك ،أو بالدخول في الإسلام صدر النهار والخروج منه آخره ،لإيجاد حالة من الاهتزاز العقيدي في نفوس المسلمين ،لما يثيره ذلك في نفوسهم من الشك ،باعتبار دلالته على أنَّهم اطلعوا على ما يوجب اعتقادهم بالبطلان ،مع أنَّهم مقبلين على الإسلام بإخلاص ،أو غير ذلك [ وأنتُم تعلمُونَ] الذي تعرفونه ،فلا تبينونه للنّاس فأنتم على علمٍ بأنَّه الحقّ من ربِّكم ،وقد أراد اللّه من كلِّ عالم بالكتاب أن يبينه للنّاس ،لأنَّ الحقّ أمانة اللّه عندهم ،بحيث تكون عملية الإخفاء والكتمان خيانة للأمانة .
لقد وقف المعقَّدون الحاقدون من أهل الكتاب موقف الحقد والعداوة من الإسلام والمسلمين في كيدهم المستمر للإسلام من خلال ما يثيرونه من أفكار الضلال وأساليب التضليل ،وذلك من أجل أن ينحرفوا بالمسلمين عن الخطّ المستقيم ،انطلاقاً من العقدة ،لا من القناعة المرتكزة على وضوح الرؤية ...وبذلك كانت القضية تمثِّل لديهم أمنيةً ،فهم يودّون للمسلمين الضلال ،فيتحيّنون الفرصة لإثارة التشكيك لديهم في شؤون العقيدة والشريعة والحياة ...وليست القضيّة لديهم أنَّهم يريدون تحويلهم إلى صفوفهم ،بل كلّ ما هناك أنَّهم يضلونهم عن طريقهم الحقّ ...
وما يضلون إلاَّ أنفسهم والبسطاء:
...ويؤكّد القرآن بأنَّ هذه المحاولات لن تنجح ولن تصل إلى أهدافها الشيطانية ،بل سترتدّ ضلالاً على أصحابها ،لأنَّهم كلّما أمعنوا في أساليبهم تلك ،كلّما ابتعدوا بأنفسهم عن خطّ الهدى ،فإنَّ السائر على خطّ الضلال والعامل على إضلال الآخرين ،لا بُدَّ له من العمل على الامتداد بعيداً في أجواء الضلال ،ومن ابتداع أفكارٍ وأساليب متنوّعة للضلال بحيثُ يختزنها في أعماقه ،ويؤمن بها في فكره ،ويعيشها في حياته وخطواته ،الأمر الذي يجعلهم يمتدون في الضلال والانحراف من ناحيةٍ ذاتيةٍ ...وبذلك يضلّون أنفسهم ،ولا يضلّون المؤمنين الواعين الذين يرصدون خطوات الأعداء جيِّداً ،فيتنبهون لما يحاولونه من إبعادهم عن دينهم الحقّ ...بينما يكون أولئك مندمجين في اللعبة ،غارقين في الحقد ،فلا يشعرون بنتائجها الوخيمة عليهم .
ثُمَّ إنَّ اللّه يُخاطب أهل الكتاب الذين أنكروا رسالة النبيّ محمَّد( ص ) ،فيواجههم بآياته البينات التي يشهدونها ويرونها رأي العين ،ويعيشونها في أفكارهم بعمق ،ليتساءل بتأنيبٍ وإنكار وتوبيخ: لماذا هذا الكفر بالحقائق الواضحة التي لا لُبس فيها ولا ارتياب ؟كيف يمكن للإنسان أن يكفر بما يشهد به وجدانه ثُمَّ يؤكّده مجدداً ،عندما يقف وقفة صراحة أمام الوجدان ؟وهذا فيه إشارة إلى الأساليب التي كانوا يُمارسونها ضدَّ الرسول ،فهم يعرفون الحقّ من خلال ما تصرّح به التوراة من صدق رسول اللّه ( ص ) ،ولكنَّهم يكتمونه عن النّاس ،فإذا ظهر للنّاس شيء من ذلك أو أقبلوا عليه ،حاولوا أن يضيفوا إليه بعض الباطل من أجل أن يجعلوا القضية في موقع الالتباس والشك لدى البسطاء من النّاس الذين لا يستطيعون في كثيرٍ من الحالات تمييز الحقّ من الباطل في مواقع الشبهات ...
المستشرقون وأساليب اللبس والتضليل:
وقد لاحظنا في خطوات أهل الكتاب من اليهود والنصارى في حركة التبشير التي قادها المبشرون والمستشرقون الذين ساروا في الكتائب الأولى للاستعمار ،أنَّهم حاولوا أن يثيروا الأكاذيب والافتراءات ضدَّ الإسلام ورسوله ،وعملوا على تشويه وجه الصورة الحقيقية بما يضيفونه من شبهات تبعث الريب في ما لا ريب فيه ،وتثير الشك في ما لا يترك مجالاً للشك .وما زالت الإثارة الحاقدة تتنوّع وتتلوّن بأساليب مختلفة ،من خلال ما يحقّقونه من نصوص ،وما يفسِّرونه من تفسيرات ،وما يطلقونه من أبحاث ودراسات يلبسون فيها الحقّ بالباطل معتمدين على الأوضاع السلبيّة التي يمرّ بها المسلمون ،وعلى الثقة العلمية التي يحصلون عليها من خلال أكذوبة الحياد الفكري ،والموضوعية العلمية التي يتظاهرون بها بإزاء الضعف النفسي والفكري والروحي لدى الجمهرة المثقّفة والمتعلّمة من المسلمين ،ما يجعلهم لا يلتفتون إلى الخديعة العلمية ،في ما ينطلق به هؤلاء من بعض قضايا الحقّ في الإسلام التي لا تمسُّ الجوهر ،بينما يعملونفي مقابل ذلكعلى تشويه القضايا الأصلية الحيّة ،بكثير من ألوان الباطل وأساليبه .
وربَّما كانت هذه الآيةمن خلال ما توحيه إليناتمثِّل أسلوباً من أساليب التوعية القرآنية التي تفتح أعين المسلمين على ما حولهم من خطوات الضلال ومؤامرات التضليل ،وعلى مَنْ حولهم من فئات الضلال التي تختبئ وراء الحكم تارةً ،وخلف المراكز العلمية أخرى ،وفي إغراءات المال والشهوات والأطماع ثالثة ،ليخرجوا من جوّ السذاجة في تعاملهم مع الآخرين ،فيكون الحذر هو الذي يطبع علاقاتهم في ما يسمعونه ويتحرّكون فيه من علاقات ومعاملات ومشاريع للثقافة والحياة ،فإذا تمّ لهم ذلك أمكنهم أن يحقّقوا الحماية لأنفسهم من كيد الكائدين وحقد الحاقدين ،فإنَّ المؤمن لا يُلدغ من جحرٍ مرتين .