/م72
[ ولا تؤمنوا إلاَّ لِمَن تَبِعَ دينكُم] أي: لا تطمئنوا إلاَّ لليهود في الحديث عن قضاياكم الخاصّة وأسراركم الخفية ،لأنَّ الوثوق بالآخرين قد يفضح الكثير من الأوضاع الداخلية الذاتية أو الخطط الخفية التي يدبّرها اليهود للمسلمين ،ما يؤدّي إلى انكشاف السرّ ،وإحباط الخطط ،وسقوط الموقف .
فإذا حصلوا على هذه الثقة وأحرزوها ،وضمنوا لأنفسهم امتداداً روحيّاً وجوّاً حميماً في علاقتهم بالمسلمين ،قاموا بتغيير الموقف في آخر النَّهار ،فرجعوا إلى ما كانوا عليه من رفض للإسلام ،للإيحاء للمسلمين بأنَّهم اطّلعوا على عقيدة الإسلام من خلال دخولهم فيه ،فظهر لهمبحسب دعواهمما فيه من نقائض ومفاسد وقضايا باطلة ،لم يكونوا مدركين لها من قبل ،ولهذا كفروا به بعد أن آمنوا به ،لأنَّهم طلاب حقّ وصدق ،ولولا ذلك لما انحازوا إلى خطّ المؤمنين في البداية ،ليدفع ذلك المؤمنين إلى التراجع عن الإسلام ،أو يدعوهم إلى الشكّ فيه على أبعد التقادير .ولما كانت هذه الخطّة التي وضعوها بحاجة إلى السريّة التي تحمي لها نجاحها ،كان لا بُدَّ من أن يضرب حولها نطاق من السريّة ،ولهذا انطلقت التوجيهات اليهوديّة لجماعتهم الذين يُراد منهم تنفيذ الخطّة ،أن لا يؤمنوا ،أي لا يطمئنوابقرينة التعدي باللامإلاَّ لليهود التابعين ،لأنَّهم الذين يُحافظون على السرّ بإدراكهم خطورته عليهم وعلى طبيعة الخطّة الموضوعية .
وهذا ما نستظهره من الآية ،بأن تكون الجملة تابعة لما قبلها لأنَّها من مستلزمات نجاح الخطّة ؛وربَّما كانت جملةً مستقلة تدعو اليهود إلى الحذر من غيرهم في ما لديهم من أسرار في هذا الموضوع وغيره ...وهذه من خِصال اليهود في سائر العصور من خلال ما يمثِّلونه من المجتمع المنغلق على قضاياه الذي وضع بينه وبين الآخرين حاجزاً نفسياً ومادّياً من موقع الشعور بالرفعة على من عداه ،ومن موقع الإخلاص لسلامة القضايا التي يعملون من أجلها ...
إشراقات إلهية:
ذلك هو حديثهم في ما أرادوه من الكيد للإسلام ،ولكنَّ اللّه يريد لرسوله أن يردّ عليهم بالكلمة الحاسمة التي تضع القضية في نصابها الصحيح .فليس الهدى حالةً طارئة يحصل عليها الإنسان بأيّ ثمن ،بل هو الينابيع الروحية التي تتفجّر في قلب الإنسان ،فتملأ حياته خصباً وحيويةً وإيماناً ،والإشراقات الإلهية التي تفتح قلبه على الحقّ وتضيء له طريق الهدى ،والفكر النيّر المنفتح الذي يحلّق نحو الحقيقة لينطلق معها في رحاب اللّه .[ قل إنَّ الهُدى هُدى اللّه] فمن الذي يستطيع أن يقف أمامه ،أو يطفئ نوره ؟!
ويقول الرسول كلمته ،أو هكذا يريد اللّه منه أن يقول إذا قام هؤلاء بما يريدون القيام به .ثُمَّ يُتابع الحديث فيما يتناجون به ،فقد كانوا يقولون لأتباعهم: لا تطمئنوا إلاَّ لمن تبع دينكم ،ولا تحدّثوهم بما لا ينبغي الحديث عنه مما تعرفونه من قضايا الحقّ والباطل ،فإذا حدثتموهم به ،فقد يكون ذلك عليكم حجّة عند ربِّكم يُحاجُّوكم به ،لأنَّكم أقررتم به .وقد أشار القرآن إلى أنَّ من جملة ذلك هو الإقرار بأن يؤتى أحد من غير بني إسرائيل مثل ما أوتيتم من النبوّة والرسالة [ أن يُؤتى أحدُ مِثلَ ما أوتيتُم أو يُحاجُّوكُم عِندَ ربِّكُم] ،فقد أريد لهم أن ينكروا ذلك ،وهم يعرفونه ،ولذا كانوا يزعمون بأنَّ النبوّة مختصة ببني إسرائيل ،فينكرون رسالة الرسول من خلال ذلك .ولكنَّ اللّه يُريد من رسوله أن يردّ عليهم كيدهم وضلالهم ،فيعرّفهم أنَّ القضية ليست بيدهم ،فاللّه هو الذي أعطى الرسالة لأنبياء بني إسرائيل ،وهو الذي أعطاها لمحمَّد رسوله ...[ قل إنَّ الفضلَ بيدِ اللّه يُؤتيهِ من يشاءُ] ،ويُعطيه لمن يريد [ واللّهُ واسعٌ] في عطائه الذي لا يضيق فضله عن أحد ،[ عليمٌ] يعرف ما يصلح الإنسان وما يُفسده ،فيوجهه إلى ما فيه الخير له في الدُّنيا والآخرة ،انطلاقاً من رحمته التي وسعت كلّ شيء .