هناك ارتباط عضويٌّ بين حركة الناس في الحياة في ما يمارسونه من أعمال ،وما يثيرونه من أقوال ،وفي ما يرتبطون به من علاقات ويحركونه من أوضاع في حياتهم العامة والخاصة ،وبين النتائج الإيجابية أو السلبية التي تحدث لهم أو تتحرك في ساحتهم ،لأن لكل موقفٍ من المواقف الخيّرة أو الشرّيرة تأثيراته الذاتية في صعيد الواقع والإنسان ،فليس البلاء الذي يحدث مجرّداً عن ظروفه المحيطة به ليكون عقوبة إِلهيّةً للإنسان منفصلةً عن العوامل الداخلية للسلوك الإنساني ،بل هو نتيجةٌ طبيعيةٌ له .فقد أراد الله أن يربط بين الواقع العملي للإنسان ،وبين النتائج السلبية ،ليحسَّ الإنسان بالطعم المرّ الذي يتذوّقه في معاناته من الآلام والأحزان والمصائب والمتاعب ،فيدفعه ذلك إلى الارتداع عن مواقفه السلبية ،وهذا ما أكدته هذه الآية:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} في ما يتمثل من المشاكل الصعبة ،والأزمات المعقدة ،والأمراض والحروب واختلال الأمن وغير ذلك ،ما يجعل الكرة الأرضية في جميع مواقعها البرية والبحرية ساحةً للفساد الأمني والاجتماعي والاقتصادي والصحي والفكري ،مما يتصل اتصالاً طبيعياً بحركة الإنسان في إدارة شؤونه وحركة الحياة من حوله{بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} فإن سنة الله في الكون اقتضت أن يكون الإنسان هو الذي يحرّك أوضاع حياته على خط السلبية عندما يبتعد عن دائرة المسؤولية الإنسانية في نطاق القيم الروحية المنطلقة من وحي الله ،أو على خط الإيجابية عندما يلتقي بالله في ما يريده من الخير للإنسان وللحياة .
وهذا ما أكده الله في أكثر من آية في قوله تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [ النحل:112] .
وأشار في آية أخرى إلى أن الإنسان هو صانع التغيير ،في ما تنطلق به إرادته ،وتتحرك به خطواته ،كما في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [ الرعد:11] .
ويشير في آية أخرى إلى الجانب السلبي في التغيير ،حيث تتحرك إرادة الله في العمق من خلال إرادة الإنسان بشكل مباشر ،على أساس أن الله يريد للإنسان من ناحيةٍ تكوينيةٍ ما يريده الإنسان لنفسه ،ليكون هو الذي يتحمل مسؤولية عمله{ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [ الأنفال:53] .
{لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ليعيشوا الواقع الصعب في نطاق المعاناة الجسدية في ما يتصل بآلام الجسد ،والمعاناة الروحية في ما يتصل بالنتائج المعنوية والمادية في المؤثرات الفكرية والشعورية في حياته ،ليكون ذلك أساساً لإِعادة النظر بكل الأوضاع والممارسات المنحرفة على ضوء النتائج السلبية ليتراجعوا عنها ،وليستقبلوا حياةً جديدة بعيدةً كل البعد عما كانوا فيه .فالإنسان لا يفكرعادةبالتراجع عن خطواته المنسجمة مع أهوائه إذا لم يصطدم بالآلام القاسية التي تهز كل جوانب الواقع من حوله وفي داخله .
وفي ضوء ذلك ،فإننا نفهم من هذا القانون الإِلهي ،أن الله يربّي عباده بالبلاء الناتج عن أعمالهم المنحرفة ،كما يربيهم بالوحي النازل على رسله .
كيف نستوحي الآية ؟
وقد نستوحي من هذه الآية ،أن على العاملين للإسلام ،في خط الدعوة أو في خط الحركة السياسية ،أن يثيروا أمام الناس المشاكل الصعبة التي تحلُّ بهم من خلال الابتعاد عن الله والانحراف عن خط الإسلام ،على صعيد الحكم والنظام والموقف السياسي والوضع الاجتماعي والاقتصادي ،وقضايا الأمن والخوف ،والحرب والسلم ،ومحاولة التركيز على الربط بين المشكلة وبين واقع الانحراف ،ليعيشوا القلق المتحرك في ذلك كله ،وليفكروا بالتغيير والتحوّل عن هذا الواقع إلى واقع الإسلام ،الذي يحاول العاملون من جهتهم أن يقدِّموه للناس في حلوله الواقعية لمشاكل الإنسان والحياة ،لينطلق الناس مع الإسلام فكراً وحركةً ومنهج حياة ،وليبقى الوعي الإنساني السياسي للإنسان المسلم منفتحاً على كل مفردات حياته وحياة الآخرين من موقع النظرة النقدية التي لا تستغرق في المشاعر الذاتية للشخص في الحسّ النقدي ،بل تنطلق من الخط الإسلامي في النظرة إلى الحياة .وبذلك لا تنفصل حركة الإنسان في الواقع ،عن الحس الإسلامي الذي يعيش مع الإسلام ،ليحركه في العقل والشعور والوجدان .