{قُلْ سِيرُواْ فِي الاَْرْضِ} في ما يمثله السير المتحرك في أنحاء الأرض في المواقع التي عاش فيها السابقون من الناس ،وانطلقت بها مطامعهم ومطامحهم في آفاق الحياة وفي ساحة الصراع ،حيث استغرقوا في أوضاعهم ومشاكلهم ،فلم يفكروا بالجانب الآخر من شاطىء الحياة ،بل عاشوا في الضباب الفكري والروحي والشعوري الذي يحجب عنهم وضوح الرؤية للمصير الحاسم ،فيخيَّل إليهم أنهم خالدون في ما حصلوا عليه من أموال وأولاد وجاهٍ وملك كبير ،وفي ما بنوه من دور وقصور وقلاع .
إنها التجربة الحيّة التي يتحرك فيها الناس في ساحات التاريخ الحيّ في صورته الماثلة على الأرض ،في حقائق الواقع المكتوبة في مشاهده ،لا في حروفه وكلماته ،{فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ} فهل بقي منهم أحد ،وأين ذهبت حياتهم وأطماعهم ،وهل استطاعوا أن يخلدوا أو تخلد دورهم وقصورهم ،وهل استطاعت قلاعهم أن تحميهم من الموت ومن قضاء الله وقدره ،وهل انتفعوا بتمردهم على الله وابتعادهم عنه ؟
كان أكثر الذين من قبل مشركين
{كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ} يعبدون الأصنام ،ويتحركون في مواقع القيم الوثنية التي لا يعيش الإنسان معها الانفتاح على الله في ما يرتبط به من علاقة الرسالة بالحياة وبالناس الآخرين لديه ،ومن مسؤوليته عن كل ما حوله ومن حوله من الموجودات الحيّة والجامدة ،ليجد فيها سرّ قدرة الله وإبداع حكمته .وهكذا كانت الحياة عندهم محكومةً للجانب المتحجر من المادة ،لا الجانب الحيّ من الروح .فهل أفادهم ذلك شيئاً ،فأين هم الآن ،وأين موقع الأصنام من كل حياتهم في مسألة البداية والنهاية ؟لقد عاشوا في تفكيرهم في مواقع الشيء الذي لا يحمل معنىً ثابتاً في ما هو العمق من معنى الحياة وسرّ المصير ،ولذلك فإنهم انفتحوا في النهاية على اللاشيء في المسألة الجدّية من الفكر والواقع .
ولعلّ في التعبير بقوله:{كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ} بعض الإِيحاء بأن الموحّدين المؤمنين هم الأقليّة التي صبرت على الفكر الذي يفرض جهد التأمّل ،وعمق البحث ،وانفتحت على الحقيقة من موقع المعاناة الطويلة القاسية ،وصبرت على الثبات في ساحة المبادىء وتمرّدت على كل تهاويل الأشباح ،حتى استقرت في مواقع التوحيد وفي آفاق العبادة الخاشعة بين يدي الله .