{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي قدوة حسنة في ما يأخذ به أو يدعه من الأفعال والمواقف ،لأنه الإنسان الذي تتمثل فيه الصفات المثلى للكمال الإنساني ،فقد ربّاه الله التربية الفضلى وأدّبه الأدب العظيم ،وصاغ شخصيته أفضل صياغة .وبهذا كان التجسيد الحي للإسلام في كل ملامح ذاته في الجانب الداخلي منها ،في ما يحمله في فكره وقلبه وشعوره من طهر الفكرة ،ونقاء القلب ،وصدق الشعور ،وإخلاص النيّة ،وفي الجانب الخارجي منها ،من الإخلاص لله والعمل بطاعته ،والجهاد في سبيله ،والإحسان إلى الناس ،والصدق في الدعوة ،والصبر على آلامها ،والانفتاح على الحياة كلها من موقع الرسالة الباحثة عن الخير في كل صعيد ،وعن الحق في كل أفق ،وعن العدل في كل مجتمع ،لتؤكد القيم الأخلاقية الإنسانية الروحية من خلال المعاناة ،وليكون رضاه في ما يرضاه الله ،وسخطه في ما لا يرضيه ،ما جعل عمله سنّةً وشريعةً ،كما كان قوله مصدراً لذلك .
وهذا هو الذي خاطب الله به المسلمين الذين كانوا معه ،ليعتبروه أساساً لسلوكهم الإيماني وخطهم الإسلامي ،بأن يتطلعوا إليه ليرصدوه في كل عمله ،لتكون صورتهم صورته ،يتأسّون به ،ويقتدون به في مواقفه وسجاياه .
وتلك هي ميزة الرسل في شخصيتهم النبويّة ،أنهم لا يمثلون الرسالة في الكلمة فقط ،بل يجسِّدونها في الموقف ،فيرى الناس صورة القيمة الإسلامية في الواقع ،كما يسمعونها في الكلمة .وقد كان رسول الله إسلاماً يتحرك على الأرض ،فيفهمون الدعوة في سلوكه بعد أن يسمعوها من قوله ،ما يوحي لهم بأنها ليست فكراً مثالياً يعيش في عالم المثال وفي آفاق الخيال ،بل هي فكر متجسّد في الواقع العملي من شخصية الداعية .
وقد رأى بعض العلماء في هذه الآية إيحاءً بعصمة الرسول( ص ) ،لأن الله لا يجعل إنساناً قدوةً مطلقة في كل عمله إلا إذا كان عمله صورةً للحق ،ومطابقاً للصواب .
وهكذا كانت هذه الآية خطاباً للمسلمين الذين كانوا يجتمعون حول الرسول ويتصرفون بحرّية الذات المشدودة إلى مزاجها ،الباحثة عن رغباتها ،الغارقة في شهواتها ،بعيداً عن المسؤولية في خط الرسالة ،وبعيداً عن الجهاد في سبيل الله ،فيهربون عندما تبدو أمامهم مواقع الخطر ،ويسقطون أمام تحديات العدو .
إنها تريد أن تشدّهم إلى صورة النبي محمد( ص ) في ثباته في جهاده ،وإخلاصه لربه وقوته في مواجهة العدو ،واستهانته بالأخطار المحدقة به ،وفي موقفه الصابر في معركة الأحزاب ،عندما كان يشجع المسلمين على الثبات ،ويشاركهم في حفر الخندق ،ويشدّ حجر المجاعة على بطنه ،ويبقى في خط التقدم الأوّل ،حتى لا يكون أحدٌ أقرب إلى العدوِّ منه .
إنها تريد أن تقدِّم لهم هذه الصورة ؛النموذج الأعلى للإنسان الرسالي الثابت في خط الرسالة ،المتحدي في مواجهة العدوّ ،ليزدادوا قوّةً بقوته ،وليأخذوا الإخلاص من إخلاصه ،حتى يكونوا في مستوى التحديات الكبيرة في المعركة ،ليكون لهم النصر من خلال هذا الموقف الحاسم القويّ في مواقع الإيمان .
إنه خط القيادة القدوة الذي تسير فيه القاعدة الجماهيرية من الأمة ،ولكن الذين يلتزمونه ،هم الذين انفتحت قلوبهم على الإيمان بالله ،وعاشوا الإخلاص له ،ورغبوا في ثوابه ،وخافوا من عقابه ،وذكروه في السرّ والعلانية ،فلم يغب عن أفكارهم ،ولا عن ألسنتهم ،لأنهم وحدهم الذين يفهمون معنى الرسالة في معناه ،وسرّ الإيمان في سره .
{لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ} ويرغب في رضاه ،ويهتدي بهداه ،ويقتدي برسله{وَالْيَوْمَ الآخر وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} فكان معه في كل أحواله ،حتى لم يغفل عنه في أيّة لحظة ،في كل مواقع المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والمعاناة .
وهكذا كانت هذه الصورة ،هي صورة المؤمنين الملتزمين المخلصين الذين صدّقوا بالله ورسوله ،وجاهدوا في سبيل الله من موقع الصدق ،لم يخالطهم شكٌ أو ريبٌ في ما هم فيه ،ولم تعرض لهم شبهةٌ في ذلك كله .