مناسبة النزول
جاء في مجمع البيان ،قال مقاتل بن حيان: لما رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب ( ع ) ،دخلت على نساء رسول الله( صلى الله عليه وسلّم ) فقالت: هل نزل فينا شيءٌ من القرآن ؟قلن: لا ،فأتت رسول الله( صلى الله عليه وسلّم ) فقالت: يا رسول الله إن النساء لفي خيبةٍ وخسار ،فقال ( صلى الله عليه وسلّم ): وممَّ ذلك ؟قالت: لأنهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال ،فأنزل الله تعالى هذه الآية[ 1] .
وفي روايات أُخر ،أن القائلة هي أم سلمة .
المرأة تطالب بموقعها
لعلّ هذه الروايات ،إن صحت ،توحي بأن هناك في تلك المرحلة من الدعوة ،تطلّعاً نسائياً إلى أن يكون للمرأة نصيبٌ من الوحي الإلهيّ يحدد لها موقعها ودورها الإنساني والرسالي ،بحيث تتشرّف وتتكرم به ،لا سيما على صعيد مشاركتها للرجال في الخير الذي يذكر فيه الله العاملين في طاعته وفي سبيله بخير .وهذا التطلع إنما انطلق من وعيها للدور الذي تقوم به في الساحة الإسلامية ،حيث شاركت في الدعوة ،وفي الهجرة إلى الحبشة ،وفي تحمّل قسوة الاضطهاد من المشركين ،وفي سقوطها شهيدة تحت سياط الكفر وتعذيبه ،جنباً إلى جنب مع الرجل ،وفي الهجرة إلى المدينة ،وفي مفارقة الأهل والأزواج فراراً بدينها ،وفي خروجها إلى الجهاد لتكون في الجبهة المساندة للمعركة ،فتسقي العطشى وتضمِّد الجرحى ،وتقوم بشؤون المقاتلين ،وتتحرك في حياتها الخاصة والعائلية والعامة في خط الالتزام الذي تقف فيه عند حدود إطاعة الله والإخلاص له في المواقع المتنوعة ،والمواقف المختلفة ،وفي ذكر الله في كل مجال .
ولذلك فإنها تطلب أن تجد في القرآن آيةً تؤكد لها شخصيتها الإسلامية في مواقع محبة الله ورضاه ،بصراحةٍ ووضوحٍ ،لأن العموميات في مثل هذه الأمور المتصلة بمشاعر الكرامة الإنسانية ،في ما هي القيمة في الموقف والحركة ،لا تملأ الفراغ الشعوري الداخليّ .
وهكذا نزلت هذه الآية تأكيداً للمساواة الإسلامية بين المرأة والرجل في دائرة التقييم الإِلهيّ للعمل الملتزم بالخط المستقيم ،وأنهما سواء في حصولهما على ثواب التزامهما من الله ،تماماً كمساواتهما في عقاب الله لهما على أعمالهما السيئة ،لأن مسألة العمل في قيمته لا تتصل بالشخص في ذكوريته وأنوثيته ،بل بالعناصر الإيمانية في حركة العمل في داخل الذات ،في العقل والقلب ،وبالعناصر الموضوعية في شروط العمل وأجزائه ،وفي النتائج الإيجابية أو السلبية في مواقعه .وفي ضوء ذلك ،قد تعلو درجة المرأة عند الله عندما ترتفع في إيمانها وعملها عنده .
وتبقى القصة في التفاضل في دائرة الحياة الاجتماعية ،على مستوى الدرجة الواحدة ،محكومةً في تنظيم الوضع الإداري للحياة العامة للإنسان ،بعيداً عن الجانب الروحي في تنظيم القيمة الإنسانية والروحية له .
المرأة والرجل سواء في الأجر والفضل
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} مِمّن تصفونهم بإسلام العقل والقلب والوجه واليد واللسان ،وكل شيء لله ،بحيث لا يجدون لأنفسهم أيّ وجودٍ في أيِّ موقع أمام الله{وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الذين عاشوا الإيمان فكراً وروحاً وشعوراً وحركةً في مستوى المواقف والعلاقات{وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ}في ما تعنيه كلمة القنوت من القيام بالطاعة والدوام عليها{وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} الذين عاشوا الصدق كعنوان كبير من عناوين شخصيتهم ،مع الله ومع الناس ومع النفس ،في الفكرة والموقف والكلمة ،{وَالصَّابِرِينَ وَالصّابِراتِ} الذين يبتسمون في مواقع الاهتزاز ،ويصمدون في مواقف التحدي ،ويبتسمون في قلب الألم ،ويتمردون أمام قسوة الطغيان ،ويواجهون مشاكل الحياة ومصاعبها من خلال الثقة بالله والاعتماد عليه في ساعات الشدّة ،{وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} الذين عرفوا الله في آفاق عظمته ،وانفتحوا على حاجتهم إليه في مواضع نعمته ،فعاشوا الخشوع في عقولهم ،وامتدَّ معهم في قلوبهم ،وتحوّل إلى هزّةٍ روحيةٍ خاضعة خاشعة في مشاعرهم وفي حركات أجسادهم ،{وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} الذين عاشوا العطاء ،كقيمةٍ روحيةٍ إنسانيةٍ في حركة الشخصية الإسلامية في داخلهم ،وواجهوا المسألة الماليَّة في ما يملكون من مالٍ ،على أساس مسؤوليتهم عنه ،باعتبار أنه مال الله الذي جعله أمانةً في أيديهم ،ليؤدّوه إلى المحرومين من عباد الله المستضعفين من موقع الواجب والإحسان المسؤول ،لا من موقع الذات والإحسان المتفضل .وبهذا كانت الصدقة عملاً من أعمال العبادة والطاعة المالية لله تعالى في سياق الخط الإسلامي العام القائم على التكافل والتآزر والتآخي الإنساني في الله ولله تعالى{والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ} في حبس الجسد عن لذات الطعام والشراب والجنس ونحوها من الحاجات الطبيعية للإنسان ،امتثالاً لأمر الله وتقرباً إليه ،وتدريباً على مواجهة الحاجات الضاغطة في دائرة الانحراف ،بالموقف الإيمانيّ المتمرد عليها إذا وقفت الحاجات أمام مبادىء المؤمن ،{وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} عما حرمه الله من العلاقة الجنسية كالزنا واللواط والسحاق وغيرها كالاستمناء ،على أساس الاكتفاء بالعلاقات المحلّلة كالزواج ونحوه انطلاقاً من امتثال أوامر الله ونواهيه في ذلك ،في ما أراده للمؤمنين والمؤمنات من العفّة عن الحرام{وَالذَاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذاَكِرَتِ} في ما يعنيه ذلك من الحضور القلبي واللساني والعملي أمام الله ،في الانفتاح عليه بالنيّة المفتوحة على كل مواقع الخير في الحياة ،وبالكلمة الممجدة له ،المسبِّحة بحمده في نعمه وآلائه ،والموحدة له في ألوهيته وطاعته ،وبالعمل الذي يقف عند حدود الله في حرامه وحلاله ،في الخط المستقيم الذي يبدأ من الله وينتهي إليه ،هؤلاء وأمثالهم من النماذج الإنسانية الملتزمة بالنهج الإلهيّ في كل آفاق الحياة ومواقعها ،ممن يمثلون الشخصية الإسلامية القوية بإيمانها ،الواثقة بربها ،الخاشعة أمامه ،الصابرة على قضائه ،الصادقة في مواقفها وكلماتها ،المتصدقة بما رزقها ،والصائمة في مواقع الإرادة عما لا يرضاه ،والمطيعة له في كل شيء ،والذاكرة له في كل مكان{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً} في ما أذنبوه ،{وَأَجْراً عَظِيماً} في ما فعلوه من خير تقرّباً إلى الله ،وطلباً لمرضاته .