{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ} كما أمرهم الله بذلك من دون زيادةٍ ولا نقصان ،ومن دون مراعاةٍ لمراكز القوى في المجتمع في تحدياتها القوية ،{وَيَخْشَوْنَهُ} فيراقبون أقوالهم وأفعالهم بكل دقّة ،في ما يشعرون به من رقابته التي تحيط بكل سرّهم وعلانيتهم ،لأنه الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ،وفي ما يعيشون فيه من مسؤوليتهم أمامه في الدعوة والحركة والموقع ،فليس بينهم وبين تحمّل الصعاب ومقاساة الآلام ،إلاَّ أن يدركوا أن رضاه في ذلك ،ولذلك لم تسقطهم التحديات ،ولم تهزمهم ضرائب التضحيات التي يقدمونها من أنفسهم وأهلهم وأموالهم ،فهم الصابرون في خشيته ،الصامدون في دعوته ،الأقوياء في مواقع رضاه ،{وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ} فلا ينظرون إلى غيره بنظرة الخوف والهيبة والتعظيم ،مهما كانت قوّتهم ومواقعهم في الحياة ،لأنهم لا يرون لهم قوّةً ذاتيةً مستقلةً عن الله ،فهم لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرّاً ولا نفعاً إلا بالله ،وهم يعملون على دعوة الناس إلى الإيمان بالتأكيد على أنّ الذين يدعون من دون الله عبادٌ أمثالهم ،لا يستطيعون نصرهم ولا أنفسهم ينصرون ،ولذلك كانوا يواجهونهم بالكلمة الحكيمة القوية التي تدخل العقول والقلوب من أبواب واسعةٍ مفتوحةٍ ،وتسيطر على المشاعر والنفوس باللهجة القوية الحاسمة ،لأنهم لا يتحركون في ساحة الدعوة والمواجهة من خلال صفتهم الذاتية ،بل من خلال صفتهم الرسالية المرتبطة بالله .ولذلك كانوا لا يعرفون التراجع في دعوتهم ولا الاهتزاز في خطواتهم ،ولا التردد في مواقفهم ،بل كانوا الحاسمين الواثقين الثابتين المنطلقين نحو الهدف الكبير في ذلك كله .
لا تنافي بين الخوف من الله والخوف من ظروف الواقع
وقد لا يتنافى هذا الذي ذكرناه من عدم الخشية من الناس في تبليغ الدعوة وفي ثبات الموقف ،مع الوسائل التي كانوا يتخذونها ،والحذر الذي كانوا يحيطون به أنفسهم ،أمام خطط الأعداء الذين كانوا يعملون على التخطيط لقتلهم ،أو الإجهاز على دعوتهم ،فيخافون من ذلك ويتقونه ،خوف الحذر الذي يعمل للتخلص من مواقع الخوف ،واتّقاء الإنسان العاقل الذي يواجه تحديات الآخرين بتخطيطٍ مضادٍ ،في ما ينعزل به عنهم في بعض المواقع ،وفي ما يفر منهم في بعض الحالات ،كما في قول موسى( ع ) في ما نقله الله عنه:{فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} [ الشعراء:21] ،وقوله تعالى في ما نقله عن النبي محمد( ص ):{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ} [ الأنفال:58] .فإنه الخوف في حركة الدعوة لمواجهة أخطارها ،وليس الخوف بعيداً عنها للتفلت من مسؤوليتها .
{وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} فهو الذي يحاسب عباده ،سواء كانوا رسلاً أو كانوا غير ذلك ،على كل ما عملوا به في دعوته وطاعته ،على أساس مسؤوليتهم أمامه عن ذلك كله ،وهو الذي يعطي الثواب على ما قاموا به من أعمال الخير ،ويُنزل العقاب على المتحركين في مواقع الشرّ ،مما لا يملكه أحد غيره ،فيجب أن يُخشى ولا يخشى غيره .