في القرآن لمحاتٌ خاطفةٌ عن النبيّ داود ،في فضل الله عليه مما أولاه من نعمه ،وفي دوره في موقع الخلافة في الأرض على مستوى الحكم ،وفي بعض اللقطات الجزئية من أحكامه ،وهناك حديثٌ عابرٌ عن بعض ما آتاه الله من نعمه ،في ما يوحي ذلك بقربه منه .
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً} فأوحينا إلى الجبال{يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} وألهمناها{وَالطَّيْرَ} مثل ذلك ،فكان داود يفتح قلبه لله ،ويحرك شفاهه بذكره ،وينطلق التسبيح الخاشع من كل روحه ،كلماتٍ مثل السحر ،وصوتاً في صفاء النور ونقاء الينبوع يهمي ويهمي فتنساب منه الأنغام في عفويّة الترنيمة الحلوة وفي غيبوبة المشاعر الحالمة ،فتمتزج حلاوة صوته بحلاوة كلماته ،ليمتزجا معاً بالحب الإلهي في قلبه ،حتى كان الحديث عن مزامير داود ،الذي كانت مناجاته كمثل المزامير في حلاوة النغم ،وعذوبة اللحن ،من دون تكلّفٍ ولا تعقيد ،وهكذا كانت الجبال تسبّح معه ،وترجِّع كل أصداء الكلمات ،وكل تقاطيع النغمات ،وكانت الطير تنسجم في أجواء التسبيح معه ،فتشعر كما لو كان الكون كله ينطلقمن خلالهفي تسبيحةٍ واحدةٍ لله الواحد القّهار .
كيف نفهم تسبيح الجبال والطير ؟
وقد نستطيع الأخذ بظاهر القرآنفي ما لم يثبت استحالته أو خلافهفلا نرى أيّ مانعٍ من أن ترجّع الجبال صدى صوته ،والطير نغمات تسبيحه بالطريقة الحسيّة المادية:{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [ الإسراء:44] في ما أبدعه الله في تكوينها من ذلك في مسار التجربة الخاصة لداود( ع ) .على أن هناك آخرين لا يقتصرون في التصرف بظاهر القرآن على المورد الذي لا يتفق فيه الظاهر مع الحقيقة القطعية ،حيث يكون الأخذ بالظاهر مرادفاً للأخذ بالمستحيل ،أو الذي لا يتفق فيه مع الدليل الثابت بشكل مقبول ،بل يجدون الاطمئنان العقلي أو النفسي عندما تتوفر الأجواء المحيطة بالموضوع كافياً في الخروج عن الظاهر ،فهم في الوقت الذي لا ينكرون فيه أن يكون للجبال وعي التسبيح في ما لا نفهمه منها ،أو يكون للطير وعي الانسجام مع داود بطريقةٍ إراديّةٍ ،لا يجدون المسألة قريبةً من الذهنية العامة التي يخاطب فيها القرآن الناس في تصورهم للأشياء من خلال المفردات الحسية الموجودة لديهم ،إذ يبدو أن ترجيع الجبال أو تسبيح الطير معه واردٌ على سبيل الاستعارة ،تماماً كما يقول الناس إن الكون كله يتحرك معه ،أو يسبّح معه ،ونحو ذلك .
{وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} فجعلناه ليّناً في يديه يتصرف به كيف يشاء ،ويصنعه كما يريد ،