{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ} لأن الذهنية المحدودة التي يحملونها لا تلتقي بالأفق الواسع الممتد في رحاب قدرة الله وإحاطته وحكمته ،فهو الذي لا يعجزه شيء ،فلا مجال لاستبعاد إعادته الخلق من جديد ،بعد أن خلقهم من عدم .وهو الذي لا يتحرك من عبث ،إذ كيف يخلق الحياة والناس ويدفعهم إلى مواجهة الموقف تحت وطأة المسؤولية ،ثم يتركهم إلى العدم ؟أفلا تكون الحياة إذاً فرصة عبث ،تماماً كما هي الفقّاعات التي تنتفخ ثم تنفجر لتغيب في الفراغ ؟ولماذا كان التكليف والمسؤولية إذا كانا لا ينتهيان إلى شيء ،فلا يلاقي المحسن جزاء إحسانه ،ولا يلاقي المسيء جزاء إساءته ؟
إنّ الحكمة تفرض الهدف ،وإن الهدف يفرض الآخرة التي تعطي للحياة معناها العميق والممتد في النتائج المتصلة بالإنسان وبالمسؤولية ،ولكن مشكلة هؤلاء أنهم مشدودون للحس ،غارقون في تفاصيله ،متخبِّطون في دياجيره ،سابحون في أوحاله ،ولذلك كانوا خاضعين للفكرة المادية التي تستند إلى الاستبعاد الحسي للبعث ،لأنهم لم يشاهدوا نموذجاً مماثلاً ،في الوقت الذي يشاهدون اختلاط الأبدان وتبدّلها وتحوّلها إلى ترابٍ لا أثر فيه للحياة حتى بنحو الاختلاجة .ولهذا كان الردّ بتأكيد الحقيقة ،من دون مقدّمات ،لأنها تحمل في داخلها معنى ثبوتها وثباتها من خلال الفكر المتحرك الذي يطلّ على الله في آفاق الكون الذي كان عدماً فوجد بقدرته ،ومن موقع الصدق الذي يتمثل في الوحي الصادق الذي جاء به الصادق الأمين ،ما يجعل للتأكيد الحاسم عمق الصدمة التي تهز المشاعر لتخلق في داخلها الرهبة في ما يشبه المفاجأة التي تخاطب الأعماق .{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} إنه القسم العظيم الذي يجعل الله شاهداً على الحقيقة التي تأخذ وضوحها من عظمة قدرته التي لا ينكرها المشركون في كلِّيَّتها وإن غفلوا عن تفاصيلها .إنه الإيحاء الذي ينفصل فيه النبي عن خصوصيته الذاتية في ما هي القناعة الخاصة ،ليسمو إلى رحاب الله ،ليقول لهم إنه ربي الذي أوحى بذلك وهو الشاهد عليه ،والقادر على إبداع كل شيء ،مهما كان كبيراً أو عظيماً في ذاته .
{عَالِمِ الْغَيْبِ} الذي يحيط به ،سواءٌ كان غيب الحاضر ،مما خفي عن الناس أمره ،أو غيب المستقبل الذي لا يملكون الطريق إلى معرفته ،فهو الذي يلاحق في علمه ذرّات التراب التي كانت جزءاً من إنسان ،ويميز بينها وبين ذرات إنسان آخر ،فيمنح هذه الحياة التي كانت لها دون أن يشتبه عليه ما يختلط منها بالذرات الأخرى ،و{لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ} لا يغيب عنه{مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَواتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ} لأن مقادير الأشياء سواء كانت صغيرة في منتهى الدقة والخفاء ،أو كانت كبيرةً في ضخامة الحجم ،تحضر في علمه الذي ينفذ إلى كل موجودٍ في داخله ،كما تنفذ قدرته إليه في أصل وجوده وتدبيره في حركته في الحياة .{إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} في اللوح المحفوظ ،أو في ساحة علمه الممتدة امتداد قدرته في آفاق عظمته .