قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ} .
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار أنكروا البعث ،وقالوا:{لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ} ،أي: القيامة ،وأنّه جلَّ وعلا أمر نبيّه أن يقسم لهم بربّه العظيم أن الساعة سوف تأتيهم مؤكّدًا ذلك توكيدًا متعدّدًا .
وما ذكره جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة من إنكار الكفار للبعث ،جاء موضحًا في آيات كثيرة ؛كقوله تعالى:{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ وَلاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ} [ النحل: 38] ،وقوله تعالى:{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ} [ يس: 78] ،وقوله تعالى:{وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} [ مريم: 66] ،وقوله تعالى عنهم:{وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [ الأنعام: 29] ،{وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} [ الدخان: 35] ،والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًّا ،وما ذكره جلَّ وعلا من أنه أمر نبيّه بالإقسام لهم على أنهم يبعثون ،جاء موضحًا في مواضع أُخر .
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابعة لهنّ ،ممّا أمر اللَّه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربّه العظيم على وقوع المعاد ،لما أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد ،فإحداهنّ في سورة «يونس » عليه السّلام ،وهي قوله تعالى:{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبّى إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [ يونس: 53] ،والثانية هذه:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [ سبأ: 3] ،والثالثة في سورة «التغابن » ،وهي قوله تعالى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} [ التغابن: 7] الآية .
وقد قدّمنا البراهين الدالَّة على البعث بعد الموت من القرءان في سورة «البقرة » ،و سورة «النحل » وغيرهما .
وقد قدّمنا الآيات الدالَّة على إنكار الكفار البعث ،وما أعدّ اللَّه لمنكري البعث من العذاب في «الفرقان » ،في الكلام على قوله تعالى:{وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} [ الفرقان: 11] ،وفي مواضع أُخر .وقوله:{قُلْ بَلَى} لفظة:{بَلَى} قد قدّمنا معانيها في اللغة العربية بإيضاح في سورة «النحل » ،في الكلام على قوله تعالى:{فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء بَلَى} [ النحل: 28] الآية .
قوله تعالى:{عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ في السَّمَاوَاتِ وَلاَ في الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ في كِتَابٍ مبين} [ 3] .
ما ذكره جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه{لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ في السَّمَاوَاتِ وَلاَ في الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ} جاء موضحًا في آيات أُخر ؛كقوله تعالى:{وَمَا تَكُونُ في شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مِثْقَالُ ذَرَّةٍ في السَّمَاوَاتِ وَلاَ في الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ} إلاّ في كتاب مبين}[ يونس: 61] ،وقوله تعالى:{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا في الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [ الإنسان: 59] ،والآيات بمثل ذلك كثيرة ،وقد بينَّاها في مواضع متعدّدة من هذا الكتاب المبارك .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{لاَ يَعْزُبُ} ،أي: لا يغيب عنه مثقال ذرّة ،ومنه قول كعب بن سعد الغنوي:
أخي كان أما حلمه فمروح*** عليه وأما جهله فعزيب
يعني: أن الجهل غائب عنه ليس متّصفًا به .وقرأ هذا الحرف نافع وابن عامر:{عَالِمُ الْغَيْبِ} ،بألف بعد العين وتخفيف اللام المكسورة ،وضمّ الميم على وزن فاعل .وقرأه حمزة والكسائي:{علاّم الْغَيْبَ} ،بتشديد اللام وألف بعد اللام المشدّدة وخفض الميم على وزن فعال .وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم:{عَالِمُ الْغَيْبِ} ؛كقراءة نافع وابن عامر ،إلا أنهم يخفضون الميم .وعلى قراءة نافع وابن عامر بضم الميم ،من قوله:{عَالِمُ الْغَيْبِ} ،فهو مبتدأ خبره جملة:{لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ} الآية ،أو خبر مبتدأ محذوف ،أي: هو عالم الغيب .
وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم:{عَالِم الْغَيْبِ} ،بخفض الميم فهو نعت لقوله:{رَبّى} ،أي: قل: بلى وربي عالم الغيب لتأتينكم ،وكذلك على قراءة حمزة والكسائي:{علاّم الْغَيْبَ} .وقرأ هذا الحرف عامّة القرّاء غير الكسائي:{لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ} ،بضم الزاي من{يَعْزُبُ} ،وقرأه الكسائي بكسر الزاي .