{إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} فمرّ مروراً سريعاً خاطفاً بطريقة الاختلاس ،{فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} وهو ما يرى في الجو من الكوكب المنقض على هؤلاء ،فيصيبهم ويطردهم عن مواقعهم التي يتخذونها لسرقة أخبار الغيب التي يريدون الاستماع إليها .
كيف تسترقّ الشياطين السمع وتُرمى بالشهب ؟
وقد تنوّع الحديث بين المفسرين حول استراقّ الشياطين للسمع ورميهم بالشهب ،في ما يوحي به ظاهر اللفظ من صورةٍ حيّةٍ تشير إلى وجود مناطق في السماء الدنيا يسكنها الملائكة وبأيديهم الشهب التي يهجمون بها على الشياطين والجن الذين يسترقّون السمع ليقذفوهم بها وليطرودهم منها .
وقد احتمل صاحب تفسير الميزان ،«أن هذه البيانات في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة تصوّر بها الحقائق الخارجة عن الحسّ في صورة المحسوس لتقريبها من الحسّ ،وهو القائل عزّ وجل:{وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [ العنكبوت:43] ،وهو كثير في كلامه تعالى ،ومنه العرش والكرسي واللوح والكتاب ...
وعلى هذا يكون المراد من السماء التي تسكنها الملائكة ،عالماً ملكوتياً ذا أفق أعلى ،نسبته إلى هذا العالم المشهود نسبة السماء المحسوسة بأجرامها إلى الأرض ،والمراد باقتراب الشياطين من السماء واستراقّهم السمع وقذفهم بالشهب ،اقترابهم من عالم الملائكة للاطلاع على أسرار الخلقة والحوادث المستقبلة ورميهم بما لا يطيقونه من نور الملكوت ،أو كرّتهم على الحق لتلبيسه ورمي الملائكة إيّاهم بالحق الذي يُبطل أباطيلهم .
وإيراده تعالى قصة استراقّ الشياطين للسمع ورميهم بالشهب عقيب الإقسام بملائكة الوحي ،وحفظهم إياه عن مداخلة الشياطين ،لا يخلو من تأييده لما ذكرناه ،والله أعلم »[ 3] .
وقد يكون ما ذكره من التوجيه قريباً إلى الاعتبار ،من خلال ما قد يظهر من الاكتشافات من بطلان كثير من الآراء التي ترتكز عليها التفسيرات الحسية في هذا المجال ،ولكن المصير إلى هذا الوجه لا دليل عليه ،وربما كان فتح هذا الباب في اعتبار الجانب الحسي من وسائل الإيضاح للجانب المعنوي ،موجباً لتأويل الكثير من آيات القرآن في هذا الاتجاه ،ما يؤدي إلى فتح الباب على المجهول ،ولكن لا مانع منه في المواضع التي يثبت فيها الدليل على عدم إرادة المعنى الظاهر ،فيكون دليلاً على إرادة خلافه ،ولكن لا بد من وجود معيّنٍ للاحتمال المذكور .
وربما كانت هذه الآيات المتعرضة لأمثال هذه المسألة من قذف الشهب للشياطين ،على نحو التخييل والاستعارة ،للإيحاء ببطلان العقيدة التي كان يعتقدها الناس في الجاهلية ،ومفادها أن الجنّ والشياطين يطّلعون على الغيب ،لانفتاحهم على أجوائه وقدرتهم على النفاذ إلى آفاق السماء ،ما كان يدفع بالكثير من الكهّان ونحوهم ممن يدّعون الاتصال بالجنّ ،إلى استغلال هذه العقيدة للسيطرة على عقول الناس ،والله العالم .