وأشارت الآية أيضاً إلى طائفة من الشياطين الشريرة التي تحاول الصعود إلى السماء العليا لاستراق السمع ،وإلى المصير الذي ينتظرها هناك ،كما جاء في الآية الشريفة ( إلاّ من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ) .
«الخطفة » أي اختلاس الشيء بسرعة .
و «الشهاب » شيء مضيء متولّد من النار ،ويرى نوره في السماء على شكل خطّ ممتدّ .
وكما هو معروف فإنّ الشهب ليست نجوماً ،وإنّما تشبه النجوم ،وهي عبارة عن قطع صغيرة من الحجر متناثرة في الفضاء ،عندما تدخل في مجال جاذبية الأرض ،تنجذب نحوها ،ونتيجة دخولها بسرعة إلى جوّ الأرض واحتكاكها الشديد مع الهواء المحيط بالكرة الأرضية فإنّها تشتعل وتحترق .
وكلمة «ثاقب » تعني النافذ والخارق ،وكأنّه يخترق العين بنوره الشديد ويثقبها ،وهذه إشارة إلى أنّ الشهاب يثقب كلّ شيء يصيبه ويحرقه .
وبهذا يكون هناك مانعان يحوّلان دون نفوذ الشياطين إلى السماء العليا:
الأوّل ،هو رشق الشياطين من كلّ جانب وطردهم ،والذي يتمّ على الظاهر بواسطة الشهب .
والثاني ،هو رشقهم بواسطة أنواع خاصّة من الشهب يطلق عليها اسم الشهاب الثاقب ،الذي يكون بانتظار كلّ شيطان يحاول التسلّل إلى الملأ الأعلى لاستراق السمع ،وهذا المعنى نجده أيضاً في الآيتين ( 17 ) و ( 18 ) من سورة الحجر ( وحفظناها من كلّ شيطان رجيم إلاّ من استرق السمع فاتبعه شهاب مبين ) .
وفي الآية الخامسة من سورة الملك ( ولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين ) .
ولكن هل يجب الالتزام بظواهر هذه الآيات ؟أم أنّ هناك قرائن تجبرنا على تفسيرها بخلاف الظاهر ،كاستخدام الأمثال والتشبيه والكناية ؟
هناك وجهات نظر مختلفة بين المفسّرين ،فالبعض منهم التزم بظاهر الآيات وبنفس المعاني التي استعرضت في بداية الأمر ،وقالوا: هناك طوائف من الملائكة تسكن السماء القريبة والبعيدة تعرف أخبار الحوادث التي ستقع في العالم الأرضي قبل وقوعها ،لذا تحاول مجموعة من الشياطين الصعود إلى السماء لاستراق السمع ومعرفة بعض الأخبار ،لكي تنقلها إلى عملائها في الأرض أي الذين يرتبطون بها ويعيشون بين الناس ،ولكن ما أن يحاولون الصعود يرشقون بالشهب التي تتّصف بأنّها كالنجوم المتحرّكة ،فتجبرهم على التراجع ،أو تصيبهم فتهلكهم .
ويقولون: من الممكن أن لا نفهم بصورة دقيقة ما تعنيه هذه الآيات في الوقت الحاضر ،إلاّ أنّنا مكلّفون بحفظ ظواهرها ،وترك تفاصيلها للمستقبل .
وقد اختار هذا التّفسير العلاّمة «الطبرسي » في ( مجمع البيان ) و «الآلوسي » في ( روح المعاني ) و «سيّد قطب » في ( الظلال ) ،إضافة إلى عدد آخر من المفسّرين .
في حين يرى البعض الآخر أنّ الآيات المذكورة إنّما هي من قبيل الأمثال المضروبة تصوّر بها الحقائق الخارجة عن الحسّ في صورة المحسوس لتقريبها من الحسّ ،وهو القائل عز وجل: ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلاّ العالمون ){[3744]} .
وأضافوا: إنّ المراد من السماء التي تسكنها الملائكة ،عالم ملكوتي ذو اُفق أعلى من عالمنا المحسوس ،والمراد باقتراب الشياطين من السماء واستراقهم السمع وقذفهم بالشهب ،هو أنّ هذه الشياطين كلّما حاولت الاقتراب من عالم الملائكة للإطلاع على أسرار الخليقة والحوادث المستقبلية ،طردت من هناك بواسطة نور الملكوت الذي لا يطيقونه ،ورمتهم الملائكة بالحقّ الذي يبطل أباطيلهم .
وإيراده تعالى قصّة استراق الشياطين للسمع ورميهم بالشهب ،عقيب الإقسام بملائكة الوحي وحفظهم إيّاه عن مداخلة الشياطين لا يخلو من تأييد لما ذكرناه{[3745]} .
ويحتمل أيضاً أنّ السماء هنا هي كناية عن سماء الإيمان والمعنويات التي يحاول الشياطين النفوذ إليها ،إضافةً إلى الانسلال إلى قلوب المؤمنين عن طريق الوساوس التي يبثّونها في قلوبهم ،إلاّ أنّ الأنبياء والصالحين والأئمّة المعصومين من أهل البيت والسائرين على خطّهم الفكري والعملي يهاجمون الشياطين بالشهاب الثاقب الذي يمتلكونه ،ألا وهو العلم والتقوى ،ويمنعون الشياطين من الاقتراب من هذه السماء .
التّفسير المذكور أوردناه هناك كاحتمال ،وذكرنا بعض الدلائل والشواهد عليه في نهاية الآية ( 18 ) من سورة الحجرات .
هذه ثلاثة تفسيرات مختلفة للآيات مورد البحث والآيات المشابهة لها .