/ت123
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً} هذا هو الدين الحق الذي يريد الله للإنسان أن يتحسّسه في مشاعره وأفكاره ،فيستسلم لله استسلاماً مطلقاً في جميع قضاياه وتصرفاته ؛وهذا هو ما تمثله كلمة الإسلام لله ،أو إسلام الوجه لله ،لأن ذلك هو ما تفرضه قضية العبودية أمام الألوهية ،في عمق الإحساس الداخلي وسعة الأفق الممتد في تفكير الإنسان على طريق المسؤولية ،في ما توحيه كلمة الإحسان من معنى شامل يتسع للحياة وللذات وللإنسان ،لأن الإسلام في مضمونه العملي يفرض التحرك في اتجاه الأعمال التي يحبها الله في عباده وبلاده ...
وذلك هو ما تعنيه كلمة{مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً} ...فإن إبراهيم كان يمثل الخط العام لكل الرسل ،كما أن رسالته كانت العنوان الكبير الذي تتحرك في داخله الرسالات الأخرى ،فهي قد تختلف في بعض التفاصيل والتشريعات ،ولكنها تلتقي جميعاً في الخط العام والعنوان الكبير ،ولذلك كان اتباع ملة إبراهيم حنيفاًأي خالصاً،وجهاً من وجوه الالتزام بالإسلام لله ؛فقد انطلق النبي إبراهيم أمام الله في وقفة إسلام رائعة{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ *وَوَصَّى بِهَآ إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [ البقرة:131132] ...وتحركت الرسالات في تاريخ البشرية لتحمل عنوان الإسلام ،حتى رسالة الإسلام في نبوة النبي محمد( ص ) ؛وهكذا كان الدين الأحسن هو الذي يحمل الإنسان فيه هذه العناوين الثلاثة التي تشمل الحياة كلها: إسلام الوجه لله ،والإحسان بمعناه الممتد في الحياة ،واتّباع ملّة إبراهيم حنيفاً .
{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً} تلك الصداقة التي منحها الله لهذا النبي العظيم ،تكريماً لتضحيته وإخلاصه وفنائه في ذات الله ؛وقد جاء عن الإمام أبي الحسن الرضا( ع ) قال: سمعت أبي يحدّث عن أبيه( ع ) أنه قال: إنما اتخذ الله إبراهيم خليلاً لأنه لم يردّ أحداً ولم يسأل أحداً قط غير الله عز وجل[ 4] .وتلك هي العلاقة التي يمنحها الله للمخلصين من عباده ،وربما كان الحديث عن هذا الجانب من شخصية إبراهيم للإيحاء بأن الإسلام العميق المتمثل في روحه وحياته هو الذي رفعه إلى هذه الدرجة ؛وهو الذي ينبغي للمؤمنين أن يعيشوه ويحصلوا عليه ليصلوا إلى بعض مراقي هذا السمو الذي يقربهم إلى الله في الدرجات العلى .
وذلك ما ينبغي للتربية الإسلامية أن تتجه إليه في بناء شخصية الإنسان المسلم ،ليعيش الإسلام من خلال هذا المعنى العميق الممتد في الفكر والروح والشعور والحياة ،لا من خلال الألفاظ الجامدة التي تؤطّرها الاصطلاحات بإطارٍ لا يوحي بأيّة حيوية تلامس الأعماق .إنها العبودية المطلقة أمام الله بإزاء الحرية المطلقة أمام عباده ؛لتكون العلاقة بالكون والحياة والإنسان تعبيراً عن العلاقة بالله ،وليكون الإحسان إلى الحياة في كل مجالاتها الفكرية والعملية تجسيداً للإحسان كقيمةٍ روحيةٍ يعبد بها الإنسان ربه في المحراب الكبير في الكون كله ،بعيداً عن كل شخص وعن كل عرض زائل .