/ت123
{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} ،فإن العمل الصالح يحقق نتائجه من أيّ شخص صدر ،سواء كان ذكراً أو أنثى ،لأن الفوارق بين الرجل والمرأة قد تجعل لكل واحد منهما دوراً مميزاً على الآخر في طريقة تنظيم العلاقة الزوجية ،أو في بعض القضايا المتصلة بالجانب الوظيفي من حياة المجتمع ؛أمّا في الجانب الإنساني الذي يتمثل بالعمل الصادر من الإنسان من حيث هو طاقةٌ معيّنةٌ ،فإن القيمة هي للعمل ،بقطع النظر عن شخصية العامل من حيث الصفات التي لا علاقة لها بكمية العمل ونوعيته… وبهذا كان تفضيل الرجل على المرأة في نطاق العلاقات العامة والخاصة على أساس مستوى معيّن لا يدخل في حسابات الآخرة عند الله ؛فقد يكون الرجل أفضل من المرأة وأرفع درجة عند الله ،لكن لا من حيث ذكوريته بل من خلال عمله ؛وقد تكون المرأة أفضل من الرجل للسبب نفسه .{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ،لأن غير المؤمن لا يستحق على الله شيئاً جزاء عمله .
مصير من يعمل عملاً نافعاً وما هو بمؤمن
وقد يخطر بالبال سؤال وهو: إن كثيراً من الناس يقومون بأعمال عظيمة في خدمة البشرية ،من خلال ما اكتشفوا من اكتشافات وما حققوا من مشاريع ،وما هدّموا من قوى الظلم والطغيان ،ولكنهم غير مؤمنين ؛فهل تذهب أعمالهم هباءً ؟وهل يكون عمل المؤمن البسيط جداً في حجمه أو في نتيجته مستحقاً للثواب ،بينما هذه الأعمال الكبيرة التي ترفع مستوى الناس جميعاً ،في ما يتعلق بخدماتهم أو تطورهم ،لا تستحق شيئاً ؟وهل يخضع مثل هذا لمقياس التوازن والعدل في المقارنة بين الأشياء ؟
وقد يجاب عن ذلك بأن هناك نقطةً مهمةً يجب أن نركز عليها ،وهي أن للعمل نظرتين أو حيثيتين في مجال عملية التقييم ؛فهناك النظرة إلى العمل من حيث طبيعته ،في حجمه وفي نوعيته وفي تأثيره في حياة الناس ،بعيداً عن شخصية صاحبه ؛وذلك من خلال كونه حقيقةً موضوعيةً مجرّدةً .وهناك النظرة إليه من حيث انتسابه إلى الإنسان وعلاقته بتقييم الشخصية ،في دوافعه وروحيته والجو المهيمن عليه ...فإذا نظرنا إليه من الحيثية الأولى ،كانت القضية قضية الموازنة بين العملين في الكم والكيف والنتائج ؛وبذلك يكون العمل المتمثل في بناء مدرسة أعظم من العمل في بناء بيتٍ ٍشخصي لإنسان فقير ،والتصدق بألف ليرة أكبر من التصدق بمائة ...
أمّا إذا نظرنا إليه من الحيثية الثانية ،فإن التقييم قد ينعكس إذا كانت الدوافع في بناء المدرسة مربوطة بهدفٍ شخصيٍ أو مزاجيٍ ،بينما كانت الدوافع لبناء البيت روحية إنسانية ،فإن العمل الصغيرحينئذيعبّر عن شخصية كبيرة ،تنطلقفي حركتهامن الأهداف الكبيرة السامية ؛أمّا العمل الكبير ،فإنه ينطلق من شخصية صغيرة ترتبط بالأشياء الصغيرة الحقيرة في الحياة ،لأن العمل الذي يرتبط بالإنسان ،يأخذ شيئاً من داخله ،ويكتسب صفةً إنسانيةً في مضمونه ؛وبذلك تتحدد قيمته بمقدار ما يحمل من معنى الإنسانية في طبيعته ،في مضمونها الروحي والأخلاقي ...وفي ضوء ذلك ،يمكننا أن نقرر نظرة الإسلام إلى العمل كقيمة إنسانية روحية ،لأن اهتمام الإسلام في تشريعه يتركز على الاهتمام ببناء الإنسان في روحيته وتفكيره وإنسانيته من حيث ارتباطها بالله ؛ولذلك اختلف الثواب على العمل حسب اختلاف المعنى الذي يكشف عنه ؛فهناك فرقٌ بين العمل الصادر عن رياءٍ والعمل الصادر عن غير الواعي من موقع مستواه ،وهناك فرقٌ بين العمل الصادر من أجل القرب إلى الله ،وذاك الصادر للقرب من إنسانٍ .وهكذا تتصل القيمة بالمضمون ،ولا تتصل بالشكل .
وعلى هذا الأساس ،فقد يكون العمل الصادر عن هؤلاء الناس غير المؤمنين كبيراً من حيث الحجم والنوعية والنتائج كحقيقة موضوعية ،ولكنه لا يحسب في هذا المستوى في نظرة الإسلام ،إذا كانت الدوافع مزاجية أو مصلحيّةً أو بعيدةً عن الله في الجوانب الآخرى ،فلا يستحق عليه ثواباً ،لأنه لا يحمل أيّ معنى روحيٍّ أو إنسانيٍّ كبيرٍ ،عندما يبتعد عن قاعدة الإيمان التي تحرك العمل في اتجاه المعاني الروحية الكبيرة التي ترتبط بالله .وقد ذكر بعض الباحثين من الفقهاء ،أن الله قد يثيب الإنسان على العمل الخيّر في ذاته ،إذا قام به الإنسان بدافع حبّه للخير ،وإن لم يقصد القربة إلى الله فيه ؛ولكننا نعلّق على ذلك ،بأن الإيمان هو الذي يجعل الخير حالة ذاتية للإنسان ،من خلال ما يختزنه الإنسانولو بطريقة لا شعوريةمن مشاعر الإيمان وإيحاءاته ،مما يجعل نية القربة إلى الله مخزونة في وعي الإنسان المؤمن بطريقة ارتكازيةٍ لا شعوريةٍ ؛ولكن لا بد من الإيمان ،فمن دونه لا مجال للثواب كحق للعبد على ربه ،لكن قد يتفضل الله على بعض عباده العاملين للخير حتى لو كانوا غير مؤمنين في الدنيا كما ورد في بعض الأحاديث ...{فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} بسبب عملهم{وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} ؛والنقير مأخوذ من النقرة الموجودة في النواة ،ويراد بها أصغر وحدةٍ في الكم ،كناية عن العمل الصغير جداً في حجمه ،فإن الله لا يغفل عنه ،بل يثيبه عليه مهما كان صغيراً .
وقد نستطيع أن نستوحي من التسوية بين الذكر والأنثى في نتائج العمل الصالح ،أن هذه دعوة غير مباشرة للمرأة بأن تنطلق في كل عمل صالح في كل مجالات الحياة من دون تحديد ،إلا ما حدده الإسلام من الحد الفاصل بين العمل المشروع والعمل غير المشروع ؛فلو كانت هناك حدود خاصة يفرضها الله عليها في مجال الخدمات العامة السائرة في نطاق العمل الصالح لاستثناه ؛وبذلك يمكن للمرأة أن تنطلق في كل الأعمال الخيرة الصالحة في نطاق الأجواء الشرعية التي أرادها الله لها كما أرادها للرجل ،لتتحقق من خلال ذلك المصلحة الإنسانية .