مناسبة النزول
جاء في أسباب النزولللواحديقال: جلس أهل الكتاب ،أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الأديان ،كل صنف يقول لصاحبه: نحن خير منكم ،فنزلت هذه الآية .وقال مسروق وقتادة: احتج المسلمون وأهل الكتاب ،فقال أهل الكتاب نحن أهدى منكم ،نبينا قبل نبيّكم وكتابنا قبل كتابكم ،ونحن أولى بالله منكم ،وقال المسلمون: نحن أهدى منكم وأولى بالله ،نبيّنا خاتم الأنبياء وكتابنا يقضي على الكتب التي قبله ،فأنزل الله تعالى هذه الآية ،ثم أفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان بقوله تعالى:{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وبقوله تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله} الآيتين .
والظاهر أن هذا الكلام المذكور في الروايتين يمثل اجتهاداً لأصحابه من خلال استيحاء الآية في مناسبتها لهذا الجدل الدائر بين هؤلاء من أهل الأديان ،ولكن الظاهر أن مساق الآية هو مساق التأكيد على أن الانتماء الديني لا يحمي أصحابه من التعرض لعذاب الله على السوء الذي يعملونه ،لأن قضية الدين عقيدة وعمل ،فمن يعمل سوءاً يجز به ،وليست المسألة مسألة التفاضل بين الأديان .
كما جاء في «تفسير البيان » للطبري روايات كثيرة في سبب نزول هذه الآيات .منها رواية مرفوعة إلى السدّي قال: التقى ناس من اليهود والنصارى ،فقالت اليهود للمسلمين: نحن خير منكم ،ديننا قبل دينكم ،وكتابنا قبل كتابكم ،ونبيّنا قبل نبيّكم ،ونحن على دين إبراهيم ،ولن يدخل الجنة إلا من كان هوداً .وقالت النصارى مثل ذلك .فقال المسلمون: كتابنا بعد كتابكم ،ونبينا بعد نبيّكم ،وقد أُمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم ،فنحن خير منكم ،نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحق ،ولن يدخل الجنّة إلاّ من كان على ديننا .فرد الله عليهم قولهم فقال:{لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} ثم فضل الله المؤمنين عليهم ،فقال:{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً}معنى الانتماء في الإسلام
في هذه الآيات تخطيطٌ للتصور الإسلامي في معنى الانتماء إلى الدين ،فليس معناه أن ينتسب الإنسان إليه ليمثل ذلك امتيازاً ذاتياً يكتفي به في عملية الالتزام ،ليباح لهبعد ذلككل شيء ،بل إن معناه ،هو الالتزام العملي ،باعتباره خطاً يسير عليه في الجانب الفكري والعملي من حياته ،مما يوحي لكل أتباع الأديان أن لا يستسلموا للأماني الذاتية بأن انتسابهم إليه يحقق لهم النتائج الجيدة على مستوى النعيم والفوز بالجنة في الآخرة ،بعيداً عن العمل في هذا الاتجاه ،فالله يريد للحياة أن تتحرك في الخطوط التي خططها في رسالاته ،ويريد للإنسان أن يكون خليفته في الأرض من خلال ما يقوم به من بناء الحياة في نفسه وفي نفوس الآخرين وفي كل ما يتعلق بمسؤوليته الفردية والاجتماعية ؛فإذا لم يتحقق ذلك ،كان هذا دليلاً على فقدانه للصدق في الإيمان ،وبالتالي على خسرانه لكل نتائجه الإيجابية على مستوى المصير .ويتفرع عن ذلك ،أن الإنسان المؤمن لا يخضع في تقييمه للعلاقات الإيمانية لمجرد الانتماء إلى الدين ،بل يحاول أن يرتكز على العمل كأساس للتقييم ،لأن المبدأ الذي تتحدث عنه الآية ليس مجرد مبدأ يتصل بتعامل الله مع الإنسان ،بل يتصل بالصفة الحقيقية للانتماء ؛وفي ضوء ذلك يمكن أن تكون الآية واردة في الإشارة إلى قصة المسلم الذي سرق وأراد قومه تبرئته وإلصاق التهمة باليهودي ،على أساس أن انتماءه للإسلام يبرّر ذلك ؛فجاءت الآيات هنا لتقول لهم: إن قيمة الانتماء إلى الإسلام تتحدد بمقدار الإخلاص العملي له ،وذلك بالالتزام بالأمانة ،وعدم الدفاع عن الخائنين ،وعدم اتهام الناس بدون حق ،أيّاً كان دينهم وعقيدتهم ...
وقد نستوحي من ذلك رفض الأساليب التي تستعملها الطوائف الدينية في المجتمعات ذات التعدد الطائفي ،أو التيارات السياسية في المجتمعات التي تتعدد فيها الأحزاب ،وذلك بحماية المجرمين والخونة الذين ينتسبون إليها بمواجهة المظلومين والأبرياء ،على أساس أن الانتماء يجعل لهؤلاء قيمةً دينيّةً وسياسيةً وذاتيةً تمنع من الاقتصاص منهم ودفع عدوانهم عن الآخرين .وقد ترك هذا التصرف آثاراً سلبية على طبيعة سلامة هذه المجتمعات ،عندما انطلق المجرمون والخونة يعيثون في داخلها فساداً تحت حماية النفوذ الطائفي والسياسي ،في الوقت الذي تحوّل فيه هؤلاء إلى عناصر تمارس السيطرة على مسيرة الناس الذين يعيشون معهم من دون أن يملكوا أمر مواجهتهم ،لأن ذلك يكلّف الناس مواجهة الطائفة أو الحزب ،مما لا قوة عندهم لتحمّله ؛وهذا هو المبدأ الجاهلي الذي كان يقول «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً » .
{لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} في ما توحون به إلى أنفسكم بأن انتسابكم إلى الإسلام يمنحكم الأمن عند الله من دون عمل{وَلا أَمَانِيّ أَهْلِ الْكِتَابِ} الذين يعتقدون أنهم أبناء الله وأحباؤه ،فلهم الحرية في أن يفعلوا ما يشاؤون من دون خوف من عذاب الله ،لأن الله لا يعذب أحبّاءه .{مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} مسلماً كان أو كتابياً أو ملحداً ،لأن عمل السوء يوحي بالروح المتمردة على الله ،الرافضة للانسجام مع طبيعة المسؤولية ؛وهذا ما يتنافى مع إخلاص الإنسان لله ،ومع مصلحة الحياة في ما يريده الله لها من انسجام مع خط الرسالات الإلهية .{وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} ،لأن الولاية لله على الحياة كلها ،فكل الخلائق خاضعةٌ لولايته باختيارها أو بحاجتها إليه في طبيعة تكوينها ،ولأن القوة لله في كل وسائلها ومظاهرها وآفاقها ،فلا قوة لغيره بعيداً عن قوته{هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} [ الكهف:44] ،{أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [ البقرة:165] ،فمن يكون الولي والنصير من دون الله ؟إن الذي يفكر بذلك يُغرق حياته في بحرٍ من الأوهام .