المفردات:
بأمانيكم: الأماني: جمع أمنية .وخلاصة ما قاله الراغب في معناه: أنها هي الصورة الحاصلة في النفس ،المترتبة على التمني .أما التمني: فهو الرغبة الشديدة في شيء يقدره الشخص في نفسه .
وليا: أحدا يلي أمر الدفاع عنه بالقول .
ولا نصيرا: ينصره ويمنعه بالقوة من العقاب .
التفسير:
123- لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ...الآية .
لما بين الله سوء مصير من اغتر بوعود الشيطان وأمانيه الكاذبة ،وعقبه بذكر حسن مصير المؤمنين الصالحين ،أتبع ذلك بيان أن الأمر-بعد الموت- لا يكون بالتمني من هؤلاء وأولئك ،بل يكون بالعمل الصالح ،فإن الآخرة هي دار الجزاء ...والجزاء من جنس العمل .فمن يعمل سوءا يجز به سوءا ومن يعمل خيرا يجز به خيرا ولا يظلم ربك أحدا .
سبب النزول:
أخرج ابن جرير وابن أبيحاتم: عن السدى ،قال: التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى ،فقال اليهود للمسلمين: نحن خير منكم ديننا قبل دينكم ،وكتابنا قبل كتابكم ،ونبينا قبل نبيكم ،ونحن على دين إبراهيم ،ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا ،وقالت النصارى: مثل ذلك .فقال المسلمون: كتابنا بعد كتابكم ،ونبينا صلى الله عليه وسلم بعد نبيكم ،وديننا بعد دينكم ،وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم ،فنحن خير منكم ،ونحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحق .ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا ؛فأنزل الله: لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ...الآية .
وقال القرطبي: من أحسن ما قيل في سبب نزولها ،ما رواه الحكم بن أبان ، عن عكرمة عن ابن عباس .قال: قال اليهود والنصارى لن يدخل الجنة إلا من كان منا ،وقالت قريش: ليس نبعث فأنزل الله: لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ...الآية .
معنى: ليس الفوز بدخول الجنة والتقلب في نعيمها الذي وعده الله الصالحين ،حاصلا بأمانيكم-أيها المسلمون- ولا بأماني أهل الكتاب ،فإن الأماني- وحدها- لا تحقق هذه الغاية العظيمة ،وإنما يحققها- مع الإيمان- العمل الصالح .أما العمل النافع وحده فلا يحققها ؛لخلوه من قصد وجه الله تعالى ،وهذا يستلزم الإيمان .كما أن عدم البعث ليس بأماني من أنكروا البعث ،فإنه حاصل ،وسيجزى بعده الناس على أعمالهم: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ .( الزلزلة:7-8 ) ولذا قال تعالى بعده:
مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا .من يعمل عملا سيئا ،سواء أكان من كسب القلوب: كالكفر ،و الحقد ،والحسد ،وسوء الظن بالمسلمين ،أم كان السبب الجوارح: كالقتل ،والسرقة ،وأكل مال اليتيم ،والتطفيف في الكيل والميزان – يعاقبه الله عليه بما يسوءه ،ولا يجد له أحدا ينقذه منه ،من ولي يدافع عنه بالقول والشفاعة ،أو نصير ينصره بالقوة ...فالكل مقهور لله الوالحد القهار .
ولما نزلت هذه الآية ،كان لها أثر شديد في نفوس المؤمنين .
يصوره ما أخرجه الترمذي وغيره عن أبي بكر رضي الله عنه- أنه قال للرسول- صلى الله عليه وسلم- بعد أن سمعها:'' بأبي أنت و أمي يا رسول الله !وأينا لم يعمل سوءا ،وإنا لمجزيون بكل سوء علمناه ! ''{[112]}
وما أخرجه الإمام مسلم وغيره عن أبي هريرة قال:"لما نزلت هذه الآية ،شق ذلك على المسلمين ، وبلغت منهم ما شاء الله تعالى _ فشكوا ذلك إلى رسول الله_ صلى الله عليه وسلم _فقال: سددوا وقاربوا ،فإن كل ما أصاب المسلم كفارة ،حتى الشوكة يشاكها ،والنكبة ينكبها "{[113]} .
ومن هذا الحديث ،نفهم أن الله تعالى ،يكفر الخطايا بالبلايا _صغرت أم كبرت_ والأحاديث الواردة في هذا كثير .
ولهذا أجمع العلماء أن مصائب الدنيا وهمومها_ وإن قلت مشتقتها _ تكفر بها الخطايا ؛إذا صبر صاحبها .
والأكثرون على أنها ترفع بها الدرجات ،وتكفر بها السيئات .
وهو صحيح المعول عليه .
ومما صح في ذلك عن رسول الله_ صلى الله عليه وسلم _ أنه قال: "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ،ومحيت عنه بها سيئة "{[114]} أورده الألوسي .