/م123
ولما بين تعالى أن أمر النجاة بل السعادة منوط بالعمل الإيمان معا أتبع ذلك ببيان درجة الكمال في ذلك وهو الدين القيم فقال:{ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن} أي لا أحد أحسن دينا ممن جعل قلبه سلما خالصا لله وحده لا يتوجه إلى غيره في دعاء ولا رجاء ، ولا يجعل بينه وبينه حجابا من الوسطاء والحجاب ، بل يكون موحدا صرفا لا يرى في الوجود إلا الله وآثار صفاته وسننه في ربط الأسباب بالمسببات ، فلا يطلب شيئا إلا من خزائن رحمته ، ولا يأتي بيوت هذه الخزائن إلا من أبوابها وهي السنن والأسباب ، ولا يدعو معه ولا من دونه أحدا في تيسير هذه الأسباب ، وتسهيل الطرق وتذليل الصعاب ، وهو مع هذا الإيمان الخالص ، والتوحيد الكامل ، محسن في عمله ، متقن لكل ما يأخذ به ، متخلق بأخلاق الله الذي أحسن كل شيء خلقه ، وأتقن كل شيء صنعه .
{ واتبع ملة إبراهيم حنيفا} أي واتبع في دينه ملة إبراهيم حنيفا أي حال كونه حنيفا مثل إبراهيم ، أو حال كون إبراهيم حنيفا ، أي اتبعه في حنيفيته ، التي كان عليها وهي ميله عن الوثنية وأهلها ، وتبرؤه مما كان عليه أبوه وقومه منها ،{ إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون ، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين ، وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون} أي جعل البراءة من الشرك ونزعاته وتقاليده والاعتصام بالتوحيد الخالص كلمة باقية في عقبه يدعو إليها النبيون والمرسلون منهم .
الأستاذ الإمام:تقدم في الآيات السابقة وصف الضالين الذين لا يستعملون عقولهم في فهم الدين وآياته وذكر حظ الشيطان منهم وإشغالهم بالأماني الخادعة ، ثم بين أن أمر الآخرة ليس بالأماني وإنما هو بالعمل والإيمان ، وأن العبرة عند الله بالقلوب والأعمال ، والحقيقة واحدة لا تختلف باختلاف الأوقات والأحوال ، ولا تتبدل بتبديل الأجيال والآجال ، ثم زاد هذا بيانا بهذه الآية فبين أن صفوة الأديان التي ينتحلها الناس هي ملة إبراهيم في إخلاص التوحيد وإحسان العمل ، وعبر عن توجه القلب بإسلام الوجه لأن الوجه أعظم مظهر لما في النفس من الإقبال والإعراض والخشوع والسرور والكآبة وغير ذلك ، وقد يظهر بعض الناس الخضوع أو الاحترام للآخر بإشارة اليد ولكن هذا يكون بالتعمل ويعرف بالمواضعة ، وما يظهر في الوجه هو الفطري الذي يدل على السريرة وهو يتمثل في كل جزء منه كالعينين والجبهة والحاجبين والأنف والحركة ، فإسلام الوجه لله هو تركه له بأن يتوجه إليه وحده في طلب حاجاته وإظهار عبوديته ، وهو كمال التوحيد وأعلى درجات الإيمان ، وأما الإحسان فهو إحسان العملخلافا للجلال فيهما إذ عكسواتباع ملة إبراهيم يراد به فيما يظهر ما أشار إليه في قوله عز وجل:{ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [ الشورى:13] فإقامة الدين مرتبة فوق مرتبة التدين المطلق وهي العمل به على وجه الكمال بحيث يقوم بناؤه ويثبت ، وعدم التفرق فيه والتعادي بين أهله .
{ واتخذ الله إبراهيم خليلا} أي اصطفاه لتوحيده وإقامة دينه في زمن وبلاد غلبت عليها الوثنية وقوم أفسد الشرك عقولهم ودنس فطرتهم فكان إبراهيم خالصا مخلصا لله ، وبهذا المعنى سماه الله خليلا ، وإذا أراد الله أن يكرم عبدا من عباده أطلق عليه ما شاء ، وإلا فإن المعنى المتبادر من لفظ الخليل في استعمالها له يتنزه الله عنه فإن الخلة بين الخليلين إنما تتحقق بشيء من المساواة بينهما وهي من مادة التخلل الذي هو بمعنى الامتزاج والاختلاط اه .
أقول:يطلق الخليل بمعنى الحبيب أو المحب لمن يحبه إذا كانت هذه المحبة خالصة من كل شائبة بحيث لم تدع في قلب صاحبها موضعا لحب آخر ، وهو من الخلة ( بالضم ) أي المحبة والمودة التي تتخلل النفس وتمازجها كما قال الشاعر:
قد تخللت مسلك الروح مني *** وبه سمي الخليل خليلا
والله يحب الأصفياء من عباده ويحبونه وقد كان إبراهيم كامل الحب لله ولذلك عادى أباه وقومه وجميع الناس في حبه تعالى والإخلاص له .وقيل إن الخليل هنا مشتق من الخلة ( بفتح الخاء ) وهي الحاجة لأن إبراهيم ما كان يشعر بحاجته إلى أحد غير الله عز وجل حتى قال في الحاجات العادية التي تكون بالتعاون بين الناس{ الذي خلقني فهو يهدين ، والذي هو يطعمني ويسقين} [ الشعراء:79] والأول أظهر وأكمل ، والمراد بذكر هذه الخلة الإشارة إلى أعلى مراتب الإيمان التي كان عليها إبراهيم ليتذكر الذين يدعون اتباعه من اليهود والنصارى والعرب ما كان عليه من الكمال ، وما هم عليه من النقص ، ولذلك ذكر أهل الأثر أن هذه الآية نزلت في سياق الرد على أولئك المتفاخرين بدينهم المتبجح كل منهم بأنه على ملة إبراهيم .والمعنى أن إبراهيم قد اتخذه الله خليلا بأن من عليه بسلامة الفطرة وقوة العقل وصفاء الروح وكمال المعرفة بالوحي والفناء في التوحيد ، فأين أنتم من ذلك ؟ ولا تكاد توجد كلمة في اللغة تمثل هذه المعاني غير كلمة الخليل ، وأما لوازم هذه الكلمة في استعمال البشر التي هي خاصة بهم فينزه الله عنها بأدلة العقل والنقل .