{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} في عذاب مستمر في عالم البرزخ يعيشون فيه العذاب النفسي{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} حيث ينطلق نداء الله القوي الحاسم{أَدْخِلُواْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} الذي يستحقونه لطغيانهم وكفرهم .
إيحاءات القصة والحوار
وقد لا يفوت القارىء ،وهو يتابع هذه الآيات ،كيف يمكننا أن نطبّق كثيراً من عناصر هذا الأسلوب على ما نواجهه في حياتنا المعاصرة ،ومنها النقاط التالية:
1وجود مؤمنين غير معلنين يدعون إلى الله يعيشون مع مجتمعاتهم بأسلوبٍ يعطي انطباعاً بأنهم لا يختلفون عن مجتمعاتهم تلك من حيث الانتماء ،ومن حيث طريقة الحياة ،ولكن من دون أن ينحرفوا عن الخط الصحيح ،وهم يتابعون الدعوة من أجل كسب أكبر عددٍ ممكن من الأفراد إليها من جهةٍ ،والاطّلاع على الخطط التي توضع ضد الإيمان من جهةٍ أخرى .
وهذا هو الذي تعبر عنه فكرة «التقية » الإسلامية التي يعتمدها الشيعة ويرون شرعيتها استناداً إلى المبادىء القرآنية المتعددة ،ومنها هذه القصة ،وقصة عمار بن ياسر وغيرها .
2ملاحقة العاملين في سبيل الله للأفكار التي يطلقها الحاكمون المنحرفون وغيرهم ،في أوساط المجتمع ،لتضليله ،ولتبرير خطواتهم العدوانية والانحرافية بأسلوب يربط المجتمع بالفكرة ،بعيداً عن أية سلبيات صداميةٍ توجب الدخول في مواقف عنيفةٍ لم يستعدّ الدعاة لها في مرحلتهم التي يمرون بها ،بحيث يتحول الحوار بينهم وبين المجتمع في هذه القضايا ،إلى حوارٍ غير مباشرٍ بينهم وبين الحاكم ،باعتبار هذا الأسلوب طريقة عمليّة ومحاولة أخيرة ،لهداية الحاكم وإيقاظ ضميره ،وإلقاء الرعب في نفسه عندما يشعر بالأصوات التي ترتفع ضد أفكاره وخطواته بهدوءٍ وقوّةٍ وحكمةٍ ،فلا تترك له أية حجّةٍ لمواجهتها وتصفيتها .
3استيحاء الروح الرسالية التي تعيش في وجدان الداعية وضميره وخطواته من أسلوب هذا المؤمن ،حيث نشعر بالوداعة الإيمانية التي تبدو في حياته ،وبالهدوء القوي الذي يسيطر عليه ،والعاطفة الفيَّاضة التي تنساب في كلماته وخطواته ،والحكمة الرائعة في أسلوب الحوار والدعوة ،ما يوحي بابتعاده عن أجواء التحدي العام ،حتى في أشدّ الحالات التي يواجهها ضدهم ،فنحن لم نلمحفي نهاية المطاففي أسلوبه أي إعلان عن انتمائه إلى موسى ،بل بقي على طريقته التي بدأها ،من اعتبار نفسه إنساناً يحكم للحق ،انطلاقاً من دراسته للموقف وقناعته به ،لا من موقع انتسابه إلى أحد أطراف النزاع .
4الإِبقاء على الأسلوب الوعظي الذي يرتكز على التخويف من الله ،ومن نتائج الحساب في الآخرة ،حتى مع المتكبرين والمتجبّرين والطغاة ،في مواجهة لتحديهم الناس بما يملكون من قوة بتحدٍّ أكبر منه يطرح قوّة الله في المقابل باعتبارها القوّة التي لا تقاوم ،ثم محاولة إحداث الفجوة بينهم وبين الناس ،عبر ربط قضية الحق والباطل بالخوف من المصير ،ما يخلق لدى الناس شعوراً بضرورة الابتعاد عن مواطن الخطر مهما كانت .
5التركيز على إيضاح الخط الفاصل بين الدعوة إلى الله وبين الدعوة إلى غيره ،بإبراز الخصائص التي تتميز به كلٌّ من الدعوتين ،وإظهار الطابع الأصيل لكل منهما ،والتركيز على النتائج العملية التي تترتب على اختيار طريق الإِيمان بالله في سلامة المصير ،بينما يؤدّي السير في الطريق المعاكس إلى نتائج خطِرةٍ على الدنيا والآخرة ،كما لاحظنا ذلك في أسلوب هذا المؤمن في الدعوة ،حيث ختم حديثه مع فرعون بالتركيز على طبيعة دعوته التي تنتهي إلى النار .
ولا بد لهذا الأسلوب من مواجهة المؤثِّرات الفكرية والاجتماعية والسياسيّة والاقتصادية ،التي تساهم في توجيه الرأي العام ،وتعطي لبعض التيارات والأفكار المطروحة ،ثقةً اجتماعيّةً أو رفضاً اجتماعيّاً ،لأن تلك المؤثرات قد تضلِّل الرأي العام وتنحرف به عن وضوح الرؤية ،فتُلبس الباطل لبوس الحق ،أو تمنح الحق ثياب الباطل ،كما نلاحظه في بعض التيارات السياسية والاقتصادية التي توجِّه التفكير إلى بعض العوامل الحيويّة التي تحرك المجتمع ،نتيجة المشاكل الكبيرة المطروحة من خلالها ،فتوحي لنا بأن تلك العوامل هي كل شيء ،ما يؤدي إلى عزل بقية العوامل المؤثرة على الحياة بحيث تبدو عوامل لا ترتبط بقضايا المصير ،لأن المصير أصبح شأناً دنيويّاً لا علاقة له بالآخرة ،أو بالإيمان بالله من قريبٍ أو بعيدٍ .
6إن ظاهرة مؤمن آل فرعون تؤكّد الفكرة الإسلامية التي ترفض اعتبار البيئة عاملاً حاسماً يشلّ عنصر الاختيار والإِرادة في الإنسان لجهة ما يتخذه من مواقف وما يقوم به من أعمالٍ ،ليكون ذلك مبرّراً شرعيّاً للانحراف من جهةٍ ،ومن جهة أخرى دليلاً على الاتجاه الجبري الفلسفيّ الذي ينكر على الإنسان حريته من موقع البيئة التي تسيطر على تفكيره وتوجّه إرادته في اتجاه محدد منحرف أو مستقيم .
إن وجود مثل هذا الإنسان الذي يولد في مجتمع الشرّ ،ووجود امرأة فرعون التي تعيش تحت ضغط هذا المجتمع ،يؤكّد الفكرة التي تعتبر جوّ الشرّ عنصراً يشجع الشرّ ،ويضعف مقاومة الإنسان ضده ،ولكنه لا يلغي المقاومة ،بل يبقي للإِنسان مجال التعبير عن إرادته في ظل الظروف الصعبة ،ويسمح للإنسان بتجربة الانتصار .ونجد في المقابل ،الإنسان الذي يولد في مجتمع الخير ،أو يعيش فيه ،كابن نوح وامرأته ،وامرأة لوط ،وغيرهم من الأشخاص الذين لم تمنعهم أجواء الخير التي عاشوا فيها من أن ينحرفوا بسبب مؤثرات الانحراف التي استجابوا لها .
إن البيئةفي الأساسلا تضع أمام الإنسان حاجزاً مستحيل الاختراق بينه وبين الخروج عن إرادة مجتمعه وسلوكه ،بل تضع أمامه عقبات وصعوبات يمكن للإنسان اختراقها بقوّة الفكر والإرادةلو شاء ذلكبعد جهدٍ طويل .
وهذا ما يبعث في نفوس العاملين إرادة الانتصار على عوامل البيئة الشرّيرة وضغوطها ،ويمكّنهم من دفع الإنسان بعيداً عن أفكار البيئة وأخلاقها وسلوكها العملي ،من أجل دفع عملية تغيير المجتمع إلى الأمام بقوّة .